ترتفع أصوات قرقعة السلاح التركي في شمال شرق سورية، إلا أن أمر المراوحة في المكان، بسبب كثرة الألوان على إشارة العبور من الأراضي التركية إلى مسرح «العملية – العدوان» العسكري في الأراضي السورية، يحول أصوات تلك الأسلحة إلى «جعجعة»، لتبقى وتيرة الحرب الإعلامية، وحرب التصريحات التركية أكبر بكثير من وتيرة وسخونة المعطيات الميدانية، لتعكس الحالة العامة في شمال شرق سورية وبقاء التهديدات التركية دون أن تتجاوز المنابر السياسية، عدم قدرة رئيس الإدارة التركية رجب طيب أردوغان حتى الآن على الحصول على ضوء روسي أميركي أخضر للمضي في تهديداته تلك.
من المؤكد أن تراجع أردوغان عن شن عدوانه، لأي سبب كان، هو بحد ذاته خسارة، وخسارة كبيرة، قد تجعله يدفع ثمنها لاحقا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة 2023، وهو من اتخذ تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول مطية للذهاب نحو شن عدوان على مناطق سيطرة ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» لكونها المتهم الرئيس بالتفجير، وبالتالي إمكانية حصاد شعبية زائدة في الداخل تمكنه من الظفر بولاية رئاسية قادمة، لذلك فإن جميع الترجيحات تؤكد مضيه في شن عدوانه، لكن دون أن يؤلب عليه جميع القوى والحلفاء الدوليين، ونقصد طبعاً روسيا وأميركا.
من الواضح أن العقدة الكعداء في طريق أردوغان، هي الموقف الروسي، خاصة وأن الحصول على الموافقة الأميركية، أو أقله الحصول على ضوء أصفر منها، شبه مضمون، لامتلاك أنقرة ورقة ضغط في «الناتو» وهي الفيتو التركي على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، وهو ما بدا جليا عبر قيام الإدارة الأميركية بتحذير رعاياها من التوجه إلى مناطق سيطرة «قسد»، وسحبها جميع دبلوماسييها وموظفيها لدى الميليشيات، ليبقى موقف موسكو الرافض لأي عملية عسكرية من شأنها أن تعقد الوضع في الشمال، لذلك عملت ومن خلال لقاءين اثنين مع متزعم «قسد» مظلوم عبدي إلى إقناع الميليشيات بالانسحاب من الحدود مع تركيا وتسليم المناطق التي تسيطر عليها لقوات الجيش العربي السوري، لكونه في المحصلة مطلباً تركياً، وضامنا لما يسمى مخاوف أنقرة الأمنية، إضافة إلى إنشاء نقطة عسكرية جديدة في قرية تل جيجان، ضمن مناطق انتشار الجيش السوري و«قسد» في ريف حلب الشرقي، ورفعت العلم الروسي ونشرت المدافع الميدانية في محيط النقطة الجديدة، في رسالة تؤكد رفضها لأي عدوان تركي.
ثلاث عمليات عدوانية شنتها الإدارة التركية ضد مناطق في الشمال السوري، وهي: «درع الفرات» في آب 2016، شملت مناطق جرابلس والباب ودابق، و«غصن الزيتون» في كانون الثاني 2018 التي احتلّت بعدها القوات التركية مناطق راجو وجندرس و332 نقطة سكنية بما في ذلك مدينة عفرين؛ و«نبع السلام» في تشرين الأول 2019، التي أدّت إلى احتلال رأس العين وتل أبيض وسلوق، ووضع تركيا يدها على جزء من طريق «إم 4» الواقع شرق الفرات، وفي جميع تلك العمليات العدوانية، ارتكب متزعمو «قسد» الموقف ذاته والخطأ ذاته، حيث «ركبوا رؤوسهم» ورفضوا تسليم تلك المناطق التي كانوا يسيطرون عليها للجيش العربي السوري، فكانت النتيجة واحدة، وقوعها تحت الاحتلال التركي، ليكون الموقف ذاته مع تهديدات أردوغان بشن عدوان على مناطق عين عيسى وعين العرب وتل رفعت ومنبج ومطار مينغ وسدّ تشرين، لتبني «قسد» موقفها الرافض لأي انسحاب وتسليم الجيش السوري المناطق التي تسيطر عليها، على وهم الدعم الأميركي لها، على الرغم أن ذاك الوهم كان موجوداً في عمليات العدوان الثلاث السابقة، ولم ترجع إلا بخفي حنين.
رهان «قسد» في كبح التهديد التركي، لم يتوقف على رهانها على الموقف الأميركي على ما يبدو، بل ذهبت إلى رهان خاسر، تخاله سيقلب الموازين، وهو تهديدها بوقف العمليات ضد تنظيم داعش الإرهابي، بمزاعم أنها تحضر لمواجهة العدوان التركي، والتهويل بأن التنظيم سيعود إلى الانتشار مجددا إذا ما شنت أنقرة عدوانها في شمال شرق سورية، دون أن تعي بأن عودة داعش هو مطلب ورغبة أميركية لكونها الراعي والوصي على التنظيم، لاستخدامه أداة ووسيلة للعودة بالأوضاع في سورية إلى مربعها الأول.
من المؤكد أن الكرد في المنطقة، يسارعون إلى استغلال وجع «الوطن الذي ينتمون إليه» في أي محنة تتعرض لها للمسارعة إلى إقامة وطنهم القومي، ومن الواضح أنهم وفي بداية الأزمة في سورية، ظنوا أن الظروف مواتية لتحقيق «الحلم الوهم» دون أن ينظروا إلى تجارب مماثلة سابقة في دول أخرى، من قبيل مملكة كردستان، وكردستان الحمراء، وجمهورية آرارات، وجمهورية مهاباد وجمهورية لاجين، وكردستان العراق، وكيف فشلت جميعها، لكنهم لم يقرؤوا المتغيرات الدولية، ما بعد بدء الأزمة في سورية، وبأن الظروف التي دفعت بأميركا إلى اتخاذهم «أصدقاء – أدوات»، وحاجة الأطراف المتصارعة لهم، لم تعد على حالها، بل إن المتغيرات الجديدة، خاصة الحرب في أوكرانيا، جعلت من تركيا «الصديق الحميم» لأميركا، والشريك المفضل لروسيا، كما أن أصحاب الرؤوس الحامية في المكون الكردي لم يفهموا أهمية الموقع الجيوسياسي لتركيا، وثِقلها، عسكرياً واقتصادياً وديمغرافياً، لدى كل أطراف الصراع الدولي، الأمر الذي مكنها من اللعب على متناقضات الوضع، وصراع «الأصدقاء الأعداء»، وزاد من قدرتها على فرض وقائع على الأرض السورية، وحتى الدولية، بفعل حاجة الجميع لها.