المتحف الوطني كان الجهة التي تقتني اللوحات الفنية التشكيلية … الخمسينيات مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ الفن السوري الحديث … خصص مشفى الغرباء ليكون متحفاً للفن الحديث واسترجعته جامعة دمشق
| سعد القاسم
على درجة عالية من الأهمية، كانت صور اللوحات، والمعلومات عنها، التي أضافتها – مشكورة – السيدة هيام دركل الأمينة التاريخية لفرع الفن الحديث في المتحف الوطني بدمشق. في تعليقاتها على الحلقات السابقة. فقد كشفت لنا عن أعمال غير معروفة، وأشارت في المحصلة إلى أهمية، تاريخية وفنية ووثائقية، كبيرة تمتلكها مجموعة المتحف. إذ إنها تضم عدداً مهماً من الأعمال النادرة التي تعود لمرحلة يتفق مؤرخو الفن التشكيلي على اعتبارها مرحلة بدايات الفن التشكيلي السوري بمفهومه المعاصر. ومن جهة ثانية تقدم بعض الأعمال بوادر تكوّن الملامح المنفردة لعدد من التجارب التي امتلكت في المرحلة التالية خصوصية مميزة، ساهمت، بشكل أو بآخر، في حركة التجديد الفني، بالتوازي مع تجارب عربية مشابهة (مصر والعراق خاصة)، ما أدى إلى منح المشهد التشكيلي السوري هوية مثيرة للاهتمام بحكم غناه وتنوعه.
اللوحة والاقتناء
ويضاف إلى ما سبق أن هذه المجموعة تم اقتناؤها في مرحلة كان فيها المتحف الوطني الجهة الرسمية الأساسية التي تقتني الأعمال الفنية، حيث لم تكن قد تأسست بعد وزارة للثقافة. وكان المعرض السنوي يقام بالتعاون بين مديرية الآثار العامة ووزارة المعارف (وزارتي التربية والتعليم العالي حالياً)، ويتم فيه منح ثلاث جوائز لأفضل الأعمال المشاركة في التصوير والنحت، ومن ثم يتم اقتناء هذه الأعمال من قبل الجهتين المنظمتين، وبمشاركة (مؤسسة التبغ) أحياناً. وظل الأمر هكذا إلى أن تم تأسيس وزارة الثقافة في عهد الوحدة مع مصر (1958)، والتي انتقلت إليها مهمة تنظيم المعرض واقتناء الأعمال منه.
نواة المتحف الحديث
في ذلك الوقت كانت قد تجمعت في المتحف الوطني تلك المجموعة المهمة من اللوحات التي عرضت فيما بعد في فرع الفن للمتحف الوطني بدمشق، والتي تمثل في واقع الحال نواة متحف الفن الحديث. وتجب الإشارة هنا إلى أن عملية اقتناء الأعمال الفنية لمصلحة المتحف الوطني قد سبقت إقامة المعرض السنوي، فقد أقيم المعرض السنوي لأول مرة عام 1950 على حين أن المتحف الوطني بدمشق كان قد تأسس عام 1928 وبين هذين العامين اقتنى المتحف مجموعة لوحات لفنانين من جيل الرواد، أو من جيل البدايات، حيث يتفق المعنيون بتاريخ التشكيل السوري المعاصر على أن البدايات كانت مع نهايات القرن التاسع عشر، ومطالع القرن العشرين.
حتى بعد تأسيس وزارة الثقافة – ومديرية الفنون الجميلة فيها – لم يتوقف المتحف الوطني عن اقتناء الأعمال الفنية – وخاصة من المعارض. وقد حرص الأستاذ حسن كمال مؤسس فرع الفن الحديث على ضم الأعمال الأكثر تميزاً إلى مجموعة المتحف، بحيث تنقسم مجموعة لوحات المتحف الوطني اليوم إلى عدة أقسام، يعود الأول منها إلى مرحلة ما قبل خمسينيات القرن الماضي، والثاني إلى مرحلة الخمسينيات. أي المرحلة الواقعة بين تنظيم المعرض السنوي لأول مرة، إلى انتقال مسؤولية تنظيمه إلى وزارة الثقافة، والثالث لأعمال فناني الأجيال التالية.
صورة مرحلة
تنبع أهمية مجموعة أعمال الخمسينيات الماضية من أنها تقدم صورة أمينة عن مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ التشكيل السوري، فإلى هذه المرحلة ينتمي معظم التشكيليين الذين حددوا ملامح الفن السوري، وصنعوا ميزته الأهم المتمثلة بالغنى والتنوع، وفي هذه المرحلة انتقل الحوار الفني من كونه حواراً بين مناصرين للواقعية ومناصرين للانطباعية، إلى حوار بين متمسكين بالواقعية ومؤيدين للحداثة. ويظهر استعراض سريع لتاريخ المعرض السنوي خلال الخمسينيات الحضور المهم للتشكيليات منذ بدايات تنظيمه. فإذا أضفنا إلى ما سبق أهمية الأعمال الفنية التي اقتناها المتحف في العقود التالية، بما في ذلك عدة لوحات كبيرة نفذت لمصلحة المعرض الدائم لفرع الفن الحديث، (منها لوحة للؤي كيالي، وثانية لأسعد عرابي تترجم مفهومه الجمالي والتشكيلي) أدركنا السبب الذي دعا الدكتور عفيف البهنسي المدير العام السابق للآثار والمتاحف للسعي إلى إنشاء متحف خاص بالفن التشكيلي السوري الحديث، ووفق ما ورد في مذكراته الصادرة عن مؤسسة (وثيقة وطن) عام 2018 فقد قامت مديرية الآثار والمتاحف بتوقيع عقد مع جامعة دمشق استلمت بموجبه المبنى المجاور لمبنى رئاسة الجامعة، والمعروف باسم (مستشفى الغرباء) من الجامعة، لتأهيله كمتحف للفن الحديث، وكانت النية أن يتم تكليف الفنان عبد القادر أرناؤوط مديراً للمتحف. لكن الأمر لم يتم واسترجعت الجامعة المبنى. حيث اتجه التفكير إلى إنشاء متحف حديث ضمن مواصفات عصرية، يضم مقتنيات المتحف الوطني، ومديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة. وقد توازى العمل الجاد لتوفير المزيد من الأعمال الفنية المهمة للمتحف العتيد، مع إنجاز الأعمال الأولى له. وكان أهمها وأولها – بطبيعة الحال – توفير الأرض التي سيقام عليها. فبعد أن اتجه التفكير أولاً نحو المساحة المجاورة لمكتبة الأسد وحديقة تشرين في ساحة الأمويين، صُرف النظر عن الفكرة على أساس أن هذه المساحة يجب أن تبقى مساحة خضراء. فانتقل التفكير إلى الأرض الواقعة خلف فندق (الشيراتون) قبل أن يستقر الخيار في المنطقة المعروفة باسم بساتين الصالحية على الطريق المتجه من وسط المدينة إلى مساكن برزة، ليتم فعلاً بعد ذلك استملاك الأرض لمصلحة مشروع المتحف، ولتنجز بذلك الخطوة الأساسية الأولى لقيامه. كان كل شيء يوحي بأن الوقت لن يطول حتى يتحقق المشروع – الحلم، إذ أعلنت وزارة الثقافة عن مسابقة عالمية لتصميم المتحف، شاركت فيها كبريات شركات التصميم في العالم وفازت بها شركة (سيرو) البلجيكية. وتم تأهيل الشركات ليتم إنجاز المشروع خلال سنتين، ورصدت له في ميزانية خاصة ضمن ميزانية وزارة الثقافة. غير أنه إثر مغادرة الدكتورة نجاح العطار الوزارة، ألغت محافظة دمشق تخصيص الأرض لمصلحة المشروع بحجة أن الضرورة تقتضي بقاءها مساحة خضراء. بطبيعة الحال لم يناقش أحد الأمر علناً، وإلا لوجد الكثير مما يرد به على هذا المنطق، وأقله أن متحفاً كالذي قرر بارتفاعه البسيط ومساحاته المكشوفة الواسعة، يمثل حماية للمساحات الخضراء وتطويراً لها. كما يمثل إضافة حضارية لها، بقدر ما تمثل تلك المساحات عامل جذب للمتحف.
غياب للجدية
لم يتوقف الحديث كلياً عن مشروع المتحف، لكنه افتقد الإيحاء بالجدية كالاقتراح بأن يقام في منطقة بعيدة على تخوم محافظة دمشق. والأمر الجاد الوحيد أن قرار الاستملاك قد تم التراجع عنه، وأن المبالغ المرصودة لتشييد المتحف أعيدت إلى وزارة المالية. ومع تسلم الدكتورة نجاح العطار مهام نائب رئيس الجمهورية تجدد الاهتمام بهذا المشروع الحضاري الحيوي إلى أن صدر قرار جديد من محافظة دمشق أعاد تخصيص أرض بساتين الصالحية لمصلحة المتحف. ليكون السؤال الأهم عما ينبغي عمله لحفظ ذلك الإرث الثقافي المهم الذي جمع على مدار عشرات السنين، إلى أن تسمح الظروف بتشييد المتحف – الحلم. وكيف يمكن أن يكون هذا الإرث أمام أعين الناس قبل أن يتحقق الحلم القديم برؤيته على الواقع، في متحف واقعي.