حين كنا طلاباً، وكل واحد منا كان طالباً، قابلنا نوعيات من المربين والأساتذة الأجلاء الذين زودونا المعارف والعلوم، وأهدونا تجاربهم، وكما كل فتاة بأبيها معجبة، كذلك كل طالب بأستاذه معجب، ويجب أن يبقى معجباً، بما أنه جلس أمامه، تتلمذ على يديه، نهل من معارفه، لكن ما يلفت الانتباه أن كثيراً من الطلاب عندما يخرجون من دائرة التعلم ينقسمون إلى صنفين، صنف يرى الأستاذ جليلاً مهما بدر منه، ويجب ألا يقترب منه واحد بأي ملاحظة!
وقسم آخر وهو الأكثر يبدأ انتقاد الأساتيذ، فيسلبهم محاسنهم، خالطاً ما بين العلمي والشخصي، ويتجاهل أن هذا الأستاذ مهما كان فهو إنسان، ويخضع لطبيعة الإنسان في حياته وتصرفاته وعلمه، ويريد الجميع من الأستاذ أن يكون ملاكاً لا يتطرق إليه شيء، أن يعيش حالة ملائكية، ولو استاف تراب الأرض، وفي عملية التقويم علينا أن نفصل بين ما هو خاص وما هو عام، بين الشخصي والعلمي، لأنه ما من إنسان في الكون من الأقصى إلى الأقصى يمكن أن تتوافق حياته الشخصية مع حياته العلمية، وها هو السيد نوبل أمامنا يمثل دوماً، فعلمه العظيم أعطى ما يؤذي العالم والإنسان، لذلك أراد أن يكفّر عن نفسه بجائزة نوبل! فهل نطلب ممن هم أقلّ من نوبل بعشرات المرات أن يكون مثالياً؟ ولماذا نقبل أي تجاوز علمي ممن نحب؟ ونقلب محاسن الذي لا نميل إليه إلى مساوئ؟
أساتذة كثيرون تحدثوا عن الأمانة العلمية، وضرورة التعب في إنجاز الأبحاث، لكننا رأيناهم وشهدنا كيف تساهلوا مع صنف من الطلاب! وكيف عدّوا بعض الأبحاث التي لا قيمة لها مهمة لمجرد أن علاقتهم بهم علاقة قوية سواء كانت علاقة سلطوية أم علاقة خاصة، ووصل الأمر حداً لا يمكن تخيله على الإطلاق، فالأستاذ العالم الجليل الذي يمارس كل أنواع القسوة على الطلاب الجديرين، ويضع العراقيل التي يسميها علمية أمامهم، هو نفسه الذي قد يطلب من المميزين أن يكتبوا أبحاث المدللين عنده بل وأحياناً يقوم هذا الأستاذ والعالم الجليل، وبدافع المصلحة والذات بإنجاز هذه الأبحاث لهؤلاء، ويكتفي بأن يتم شكره في المقدمة لدوره العلمي الكبير!! وحين تمضي السنوات، قد يتنكر هؤلاء للأساتذة الذين صنعوهم وكتبوا لهم ومنحوهم الدرجات العلمية، فتبدأ الألسنة تتداول الموضوعات، لكن الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب!
غير الجدير صار يحمل الألقاب، وربما تقلب في المواقع والمناصب بعد أن نال جواز المرور من أساتذته العلماء!
والطريف الغريب أن الكثيرين من الطلبة يخلطون ما بين الشخصي والعلمي، فإن كان ثمة خلاف شخصي حوّله إلى خلاف علمي، وإن كان الخلاف في التوجهات السياسية أو ما يمت إليها بصلة، فإن الأمر يزداد سوءاً!
فكم من واحد لا شيء له يتم التعامل معه بإجلال، وتصنع له هالة من النور الذي لا يستحقه، لا لشيء، إلا لأنه ينتمي إلى جوقة العازفين المهللين له بشكل من الأشكال! وكم من واحد جليل حقاً، يملك معرفة لا تجارى، ولكنه لأنه يعمل وفق القواعد والأصول، ولا يتجاوز أمراً، ولا يقف في طريقه أحد، فإنه يبقى هدفاً لكل سهم مسموم، من كل حدب وصوب!
الجدارة هي التي تبقى، والاسم هو الذي يجب أن يبقى علامة للزمن، والمصلحة العامة وكشف الكنز في كل شيء هو الأكثر قيمة وأهمية، فعندما نتذكر أساتذتنا علينا أن نكون منصفين ومفرّقين بين العاملين الشخصي والعام، وأن ننظر إلى علمه بمعزل عن القضايا الأخرى، فقد تضطر واحدهم الظروف إلى أن يخرج بأشياء لا يقبلها العقل من الأساتذة، وفي الوقت نفسه، علينا ألا نضعهم في بروج عاجية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فما من واحد منا وصل مراتب الرسالة والابتعاد عن الخطأ والهوى، وحين نريد منهم هذه النزاهة المطلقة، يجب أن نضعهم في ظروف مثالية مادية ومعنوية، وبعدها نقوم بالتقويم، فأساتيذ بدافع المحبة نسبغ عليهم ألقاباً رنانة، وهم ليسوا كذلك، وربما كان الواحد منهم وراء مصائب علمية كارثية! وأساتيذ نسلبهم محاسنهم لمجرد أننا اختلفنا معهم ذات يوم أو لأنهم لم يحققوا مصالحنا!
فيكشف للكثيرين أن أجلاء يجلهم الجميع لم يقدموا لطلابهم النصيحة عند إعداد بحوثهم، وكانوا مشغولين عنهم، وربما ظلموهم وكلفوهم، وأخروهم، وفي الوقت نفسه يقوم هؤلاء الأساتذة بالكتابة نيابة عن الطلاب الذوات، وربما كلفوا الطلاب الذين ظلموهم بالكتابة عن المدللين، وفي التقويم يتابعون مراحل الظلم والانحياز هذه، فهل من حقنا أن نبقى على تقويمنا؟!
الأيام وحدها هي القادرة على اكتشاف بيضة الديك عند المدللين، وذاك الذي ظلمه أستاذه يتابع شغف العلم ويصل إلى مراحل متقدمة قد لا يصلها الأستاذ المشار إليه.
البحث العلمي هوس ومعرفة يبقى مع الذين ملكوه، وعلينا ألا نطمئن كثيراً ونقول: لا يصح إلا الصحيح! فهذا كلام إنشائي لا قيمة له، وغاية لا يمكن أن يصل إليها المرء، بل علينا أن نمهد الأرض للبحث، وأن تصبح الأبحاث ميدانية ومتاحة ومغطاة من أجل غد الأوطان، وبعدها لو تم تدليل بعضهم فإنهم لن يشكلوا تياراً، وسيأتون ويذهبون، وليس لهم سوى بعض كتب لا يعرفون ما فيها!
البحث العلمي، إن كان أدبياً أو علمياً دقيقاً ليس شعاراً، وله متمماته من مكتبات ومخابر وأدوات، وله تكاليف باهظة علينا، وعلى الحكومة تحديداً أن تسهم في تأمينه وشيوعه لتخرج بجيل من الباحثين الذين يتجاوزون الواقع والأساتذة عن جدارة.