قضايا وآراء

أوروبا وعودة أخبار الانقلابات.. ماذا لو أعادَ صمويل هينتيغتون النظر بتنبؤاته؟!

| فراس عزيز ديب

ألمانيا تتعرضُ لمحاولةِ انقلاب! عندما تقرأ هذا الخبر لا تظن بأن هناكَ خطأً مطبعياً قد حدَث، لا تظن بأن خطأً تاريخياً مُرتَكَب فالقيصر فيلهيلم الثاني لم ينقلِب على والده ولم ينقلب عليه ولده ليصبح آخرَ الأباطرة الذين بصموا في تاريخِ هذه الإمبراطورية، لكنهُ ببساطةٍ خسر الحرب، أما نظام الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية فلم يسقط بانقلابٍ قام به مانفريد كيرلاخ لكنهُ سقطَ بسقوطِ جدار برلين لتسقطَ معه كل النزاعات الأوروبية التقليدية المتطلِّعة للسلام في تلك المنطقة عسَاها تستعيد عبقَ النفوذ على الساحةِ الدولية مُستلهمة من إرثٍ استعماري حقير عاث فساداً وقتلاً بالشعوب المستضعفة، قبل أن يصطدمَ حلم الوحدة الأوروبية بالحرب اليوغسلافية التي وأدتهُ في المهدِ بعدَ أن حولتهُ إلى مجردِ اتحادٍ اقتصادي تابع للاقتصاد الأكبر، الولايات المتحدة الأميركية.

ألمانيا تتعرضُ لمحاولةِ انقلاب، مهلاً قبل البدءِ بتحليل خبر كهذا تعالوا نحن أيضاً نستلهِم كصحفيين عرب من التجربة الألمانية خاصة والأوروبية عموماً في التعاطي الإعلامي مع الأحداث المماثلة ولنبدأ من القاعدةِ الأهم عبر نسب هذهِ الأخبار إلى ما يسمى بـ«الرواية الرسمية للنظام الألماني» أو بالقول: «هكذا أوردت البيانات الرسمية الألمانية ولم يتسنَّ لنا التأكد مما جرى من مصدرٍ مستقل»، ألم يكن هذا الأسلوب متَّبعاً في الإعلام الديمقراطي عندما جرى تعويم العمليات الإرهابية التي قام بها الإرهابيون في سورية تحت مسمى معارضةٍ مسلحة، من منا يستطيع التأكد من الرواية الحقيقية وحيثيات الاتهام، ما أدرانا لربما من يتم الحديث عنهم كمخربين أو مندسين هم مجموعة متطلعة للديمقراطية لا أكثر؟!

أما إن تحدثنا بواقعيةٍ مُطلقة رغم قدرتنا على استخدام الأسلوب ذاته في النفي فإننا نبدو أمام احتمالين:

الاحتمال الأول: إن ما جرى هو تضخيم للأحداثِ على اعتبار أن زمنَ الانقلابات في أوروبا ولّى إلى غيرِ رجعة، تحديداً أن العامل الأهم في حسمِ أي انقلاب هو موقف الجيش الوطني أولاً، هنا نجحت هذه الدول بتحييد الجيوش الوطنية عن الحياة السياسية أو الصراع السياسي الداخلي طالما أنه صراع يتم وفق الأطر الدستورية والقانونية، الفصل بين السياسة والجيش تماماً كما الفصل بين السياسة والدين! هذا الفصل موجود حتى في منصب وزير الدفاع الذي عادةً ما يكون مدنياً، أما العامل الثاني فهو النفوذ والقوة التي تتمتع بها الجهة العازمة على الانقلاب، هنا يُصبح السؤال المشروع، من هي منظمة «مواطنو الرايخ» المتهمة بالتخطيط لذلك وما هو نفوذها؟ إذا كانت البيانات الرسمية الألمانية تحدثت عن تنظيمٍ يقدر عدد المنتسبين إليه بعشرين ألف شخص، أما مجلة «فوكوس» الألمانية فأكدت بتقريرٍ مشابه أن هذا التنظيم مترهل وغير متماسك، ماذا يمكن أن يفعل هذا التنظيم في دولةٍ يبلغ عدد سكانها أكثر من ثمانين مليون نسمة؟!

ختاماً يبدو لنا العامل الثالث هو موقع نظام هذا البلد أو ذاك على الساحةِ الدولية؟ لايمكن لنا إسقاط هذا العامل لضمانِ الاعتراف بهذا الانقلاب من عدمه وإلا تحول الانقلاب إلى انتحار، ألم يرفض الروس والإيرانيون الانقلاب الذي كادَ أن يطيح برأس النظام التركي رجب طيب أردوغان في خطوةٍ غير مفهومة ما ساهم بإنقاذه؟ نعم قد يتمكن هذا التنظيم من إثارة الفوضى هنا وهناك أما أن يقود انقلاباً من دون نفوذ ولا عدة ولا عتيد فهي رواية تحتاج لمراجعة، يصبح معها الحديث في الوضع الحالي عن انقلاباتٍ هي مبالغة هدفها إعادة لم شملٍ للعقد الاجتماعي الداخلي للدول الأوروبية التي تتعرض لاهتزازات، هنا تبدو شماعة التخويف التي تقودها هذه الحكومات أسلوباً لمنع التوترات، بل إن هذا الأسلوب قد يتطور نحو المزيد من الاهتزازات الأمنية كان آخرها الحديث عن احتجازِ رهائن في مدينة دريسدن يومَ أمس وبطبيعة الحال لأن المجرم لم يصرخ «الله أكبر» فإن التعاطي الإعلامي الأوروبي ذهب نحو «الحالة النفسية للمجرم» ولم يتحدث عن عمل إرهابي!

الاحتمال الثاني: إن ما يجري فعلياً هو سياق طبيعي للتحولات في الدول الكبرى، هذا الاحتمال لا يجب أن يقصي فرضية الأثر الذي تركته الصراعات في هذا العالم مروراً بالحرب الروسية على أوكرانيا وصولاً للأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أوروبا، بهذا السياق تحديداً بدَت المجتمعات الأوروبية منذ سقوط الطموحات الهيتلرية وما تعنيهِ من تفكيرٍ قومي صرفٍ تتقوقع بالحدودِ والعرق، قد قبلت على مضضٍ مبادلة الإيديولوجيات التقليدية بالسلام والرخاء الاقتصادي، لا رخاء بلا سلام، ولا سلام من دون جعل المنطقة خالية من الحدود الاقتصادية والاجتماعية، نجحت هذه المقايضة ببناء اقتصاديات قوية أمَّنت للشعوب الرخاء والبحبوحة الاقتصادية على مدى عقودٍ من الزمن، هذه الفكرة تبدو على الوجه المناقض لما يجري في مجتمعاتنا حيث انقسمنا عملياً إلى دول لا تزال متمسكة بالشعارات ما جعلها بوضع اقتصادي واجتماعي يدمي القلوب أو مجتمعات وضعت الشعارات جانباً لكنها إما فشلت اقتصادياً أو كان نجاحها جزئياً عبر الوفرة النفطية، لكن بكلا الحالتين كان هناك إخفاق ببناء دولة على أساس المواطنة بعيداً عن أي تمييزٍ أو تفضيل ما جعلها تهتز عند أول منعطف، على هذا الأساس يبدو الطلاق بين مبادلة الإيديولوجيات بالرخاء الاقتصادي في الحالة الأوروبية دخل مرحلة الموت السريري، هناك من سيسأل: هل من رابط بين هذا الطلاق المحتمل وصعود اليمين المتطرف؟

في الحقيقة يبدو الأمر أبعدَ بكثيرٍ من مجردِ يمينٍ متطرف أو أحزاب قومية متطرفة، هنا علينا أن نتذكر أن القوميين في إيطاليا وصلوا الحكم عبر الانتخابات وليس عبر الانقلابات، نحن نتحدث عن إيديولوجياتٍ ناشئة هي نتاج كل التراكمات الصدامية التي حكمت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد تستلهم من كل التجارب السابقة تحديداً تلك التي طبعَها الفشل، نتحدث عن صعود لأفكار غير معنية بالآليات الدستورية لإحداث التغييرات، لا تنتظر الصناديق للوصول إلى الحكم، الأمر يشبه التوظيف الذي تقوم به أي مجموعة إرهابية متطرفة للعقيدة بهدف اقتلاع عقول البسطاء، كلاهما يسعى إلى التغيير لكن كل يراه على طريقته.

هناك من سيسأل أيضاً، هل الأمر مرتبط بفكرة صدام الحضارات؟ الجواب حكماً لا، فصراع الحضارات هو مصطلح أشمل عابر للحدود وقد يكون عابر للغة، الصراع هنا هو صراع الحضارة نفسها، هذا الصراع سيؤدي لانقسامها بطريقةٍ قد تؤدي لنشوء إيديولوجيات جديدة أو دول جديدة، أكثر من ذلك قد يكون هذا التشظي أشبهَ بالتصفيات الداخلية لمكونات ذات الحضارة والتي سينتج عنها الفائز ليواجه الحضارة المنافسة، هي أشبه بأن تكون في صراعٍ مع عدوك عندها تحاول أن تأخذ بمقومات الصمود والمواجهة لرسم آليات النصر، لكن ماذا عندما يكون الصراع بينك وبين ذاتك للحصول على إجابة منطقية للسؤال الأهم في هذا الوجود: من نحن؟

تبدو كل الاحتمالات السابقة مفتوحة لتصبح واقعاً، لكن عبر المزج بينهما وليس بتفضيل أحدهما على الآخر، وبمعنى آخر لا يمكن النظر إلى ما يجري في القارة الأوروبية كخبرٍ عابر، هناك دول ستدفع أثماناً باهظة وهناك تكتلات ستندثر، يوماً ما تحدثت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين عن الاتحاد الأوروبي بالقول: إن تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون له «تأثير الدومينو» في التكتل، إن العام 2016 كان عام استيقاظ بريطانيا وأنا متأكدة أن عام 2017 سيكون عام استيقاظ شعوب القارة الأوروبية»، اللافت يومها أن لوبين كانت تتحدث عن مدينة «كوبلنتس» الألمانية، واليوم تتصدر ألمانيا المشهد الأوروبي بعدَ أن كانت تتصدر اقتصاده، من كان يتوقع حتى الأمس القريب حدوث ذلك؟ ربما لو عاد صمويل هينتيغتون للكتابة عن صدام الحضارات لأضاف تعقيباً بسيطاً إلى تنبؤاته: هذا الصدام لن يحدث إلا عندما تتوازى الحضارات بالقدرة، دونيةً كانت أم فوقية، لا يبدو بأننا سنتتظر كثيراً لمشاهدةِ هذا النهائي بأي مستوى كان لكون الحروب المصيرية لا تتعاطى مع الجزئيات البسيطة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن