أوردت وكالة «الأناضول» التركية قبل أيام خبراً قصيراً عن لقاء جمع ما بين المبعوث الأميركي السابق لدى «قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش» جيمس جيفري وبين وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، والخبر الذي لم تسهب الوكالة في شرح تفاصيله كان ذي دلالات ومؤشرات قد تجعل من الفعل، أي شرح التفاصيل، غير مهم قياساً للرؤيا التي يحملها الرجل والتي يصح توصيفها بالمتكاملة تجاه دول المنطقة وتوازع الأدوار فيما بينها تبعاً لمعطيات الجغرافيا وكذا قياساً للأثقال والحجوم التي تتمتع بها.
جيفري، وعلى الرغم من أنه الآن لا يحمل أي صفة رسمية، ليس شخصاً عادياً فهو تنقل على مدى العقود الأربعة الماضية ما بين المناصب بطريقة «وثب الكنغر» التي تعطي القائم فيها ميزة القدرة على التحرك بعيداً عن المطبات والنجاح فيها يعبر عن عمق الإلمام بخريطة الألغام المنتشرة التي تعترض المسار آنف الذكر، كان آخر المناصب التي عينه فيها رئيسه السابق دونالد ترامب عام 2018 هو «الممثل الخاص» للولايات المتحدة في سورية قبيل أن يضيف له عام 2019 صفة «المبعوث الرئاسي الخاص لقوات التحالف الدولي» لكن رحيله عن المنصبين الذي تزامن مع رحيل إدارة ترامب لا يعني بالضرورة ابتعاده عن دوائر صنع القرار، فشخصيات من هذا النوع تحظى بكم وافر من الخبرة غالباً ما يعتد بآرائها وخبراتها حتى وإن كان الفعل بعيداً عن الأضواء الذي يفرضه البعد عن المناصب، ومن المؤكد أنه أحد أكثر الساسة الأميركيين قرباً من أنقرة التي تحظى آراؤه فيها لإنصات ساستها بدرجة كبيرة حتى إن بعض هؤلاء يحبذ وضعها، أي وضع آراء جيفري، في خانة التطابق مع السياسة والمصالح التركية.
اتسمت السياسات التي اعتمدها جيفري خلال سني 2018 – 2020 بقربها من الرؤية التركية، وعبرها كان يرى أن منح الأكراد أي وعد بإقامة «دولة مجتزأة» من الأراضي التركية، أو من أراضي أي من دول المنطقة، سيكون أمراً بالغ الخطورة على الاستقرار الذي ستزداد معه، أي مع ذلك الفعل، عوامل التفجير التي تحتوي المنطقة على فائض منها، وقد كان له في ذاك موقف صريح حين أعلن خريف عام 2018 عن أنه أخبر قائد ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية– قسد» مظلوم عبدي في لقاء جرى معه قبل وقت قصير بأنه «يجب أن يضع في حساباته أن «علاقات الولايات المتحدة معه محصورة بمحاربة داعش، لا لإقامة دولة أو إقليم كردي»، وفي مقلب موازٍ يتخذ جيفري موقفاً حازماً تجاه طهران التي يرى أنها تلعب دوراً إقليمياً لا يتناسب وقدراتها ثم إن تناميه يشكل هو الآخر «عامل اضطراب أكبر» وفقاً لتعبير كان قد استخدمه في السياق نفسه الذي ورد فيه حديثه لمظلوم عبدي آنف الذكر، ولذا فإن جيفري يرى بأن تحجيم الدور الإيراني يجب أن ينطلق من خلق دور تركي موازٍ له، وهو يعادله في الحجم والقدرات التي يجب أن تتوافر لأنقرة عبر تقديم الغرب لدعم سياسي واقتصادي وعسكري لهذي الأخيرة بدرجة أكبر من تلك الحاصلة الآن.
في الإطار العام يرتكز «مشروع» جيمس جيفري لحل الأزمة السورية على مبدأ أساسي يقوم على وجوب أن يكون الحل تشاركياً مع روسيا، أما قوامه فنقاط عدة أبرزها وجوب الحفاظ على خفض التصعيد القائم نسبياً منذ عام 2018، ثم فرض تنازلات على دمشق ذات طابع سياسي وبعضها جيوسياسي في مقابل تقديم مكاسب لها من نوع إعادة دمج فصائل المعارضة السورية في الشمال وكذا «قسد» داخل الهيكلية القائمة في الجيش العربي السوري من دون إحداث أي تعديلات عليها، وفي النهاية يجب إزالة «الأسلحة الإستراتيجية الإيرانية» من الأراضي السورية بوصفها «عامل تفجير» من الصعب على دول عدة التعايش معه وفقاً لتوصيف قدمه جيفري عام 2019 خلال لقاء أجرته معه صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية.
كانت خواتيم الطروحات التي تقدم بها جيفري قبيل أن يغادر منصبه هي دوام التفاوض مع الروس لتقليص حجم التباين القائم ما بين هؤلاء وبين الأميركيين، والراجح هو أن تلك الرؤيا التي قدمها هي التي كانت سبباً في دعوة موسكو لوزير الخارجية السابق مايك بومبيو، شهر أيار من عام 2019 الذي قدم رؤية «معدلة» لتلك التي يتبناها جيفري، لكن موسكو رفضت عرض بومبيو، الأمر الذي فسره جيمس جيفري آنذاك بأنه ناجم عن شعور الروس بـ«فائض قوة» في سورية بقدر أتاح لهم رفض العرض الذي تقدم الأميركيون به على لسان وزير خارجيتهم.
الآن، من الراجح أن جيفري الذي لا يزال مؤمنا بصوابية الرؤيا التي تشكلت لديه في غضون السنوات السابقة، وفي الذروة منها دور أنقرة الذي يجب أن يكون محورياً ومعادلاً للدور الإيراني ولربما الروسي أيضاً، يرى أن الظروف تغيرت كثيراً ما بعد 24 شباط الماضي، وعليه فإن ما رفضه الروس في أيار 2019 يمكن لهم أن يقبلوه الآن، خصوصاً أن كثيراً من المعطيات قد تغيرت ما بين ذينك التاريخين على الأرض السورية وفي الذروة منها التدهور الحاصل في الحياة المعيشية لأغلبية السوريين، والتي باتت تهدد فعلاً بإمكان حدوث «تشققات» في التركيبة الاقتصادية- الاجتماعية للبلاد، ولذاك كله فإن جيفري يرى الآن أن كل الظروف تبدو مواتية لتحقيق «صفقته» مع الروس، الأمر الذي شكل بالتأكيد محور محادثاته مع وزير الدفاع التركي خلوصي آكار قبل أيام، وربما كانت عودة جيفري للظهور من جديد ليست ببعيدة عن المناخات التي لاحت مؤخراً في الأفق، فاللقاء الذي حصل ما بين وفدين روسي وأميركي يوم الجمعة الماضي في أنقرة من الصعب تصديق الإعلان الأميركي القصير عنه عندما قال: إنه سيبحث فقط في «قضايا تقنية عالقة»، والراجح أنه سيبحث في الكثير منها بدءاً من أوكرانيا ووصولاً إلى سورية.