رباعيات الخيام والإرث الإنساني … صياغة الرباعيات وفق الشعر الحديث بعيداً عن نظام الأشطر
| إسماعيل مروة
رباعيات الخيام من أكثر نصوص الأدب الإنساني دوراناً وإشكالية، فما من لغة لم تعرف الرباعيات، وما من اتفاق على عددها ونسبتها، وما من اتفاق على ترجمتها ومعانيها، وكل مترجم يدّعي الأفضلية، وكل جهة تدعي ترجمة مترجمها، هي شعر ترجمت مرات كثيرة شعراً، وترجمت مرات أخرى نثراً، وهذا يدّعي أن ترجمتها شعراً لم تكن أمينة عليها، وذاك صاغها بروحه هو، وثالث ورابع، وفوجئت بعدد المترجمين والطبعات عندما كنت أتحدث مع الأستاذ محمد عبد الله نور الدين الذي اعتنى بالطبعة الجديدة للرباعيات، واختار لها (جمع وتأويل) ولم يختر لها تعبير (ترجمة) إذ صرّح باطلاعه على أكثر من سبعين ترجمة، فماذا قدّم في هذه الترجمة؟
التعريف والتاريخ
قدّم المعدّ والمترجم نور الدين تعريفاً وترجمة وافية لعمر الخيام، مبيناً أن شهرته ومعرفته إنما بنيت على خبرته وإنجازاته في العلوم والرياضيات، وليست على شاعريته، وهذا أمر شرحه الدارسون من قبل وبينوا أن الشهرة المتأخرة لرباعيات الخيام، وخاصة بعد ترجمتها إلى اللغات الأوروبية طغت على سمعته العلمية واكتشافاته، ويبدأ إشارته إلى مكانته العلمية العالية لننتقل مباشرة إلى الرباعيات (شهرته العلمية تعود لحلّه معادلة الدرجة الثانية، وبعضاً من معادلة الدرجة الثالثة في الرياضيات، وكذلك لدقة التقويم الخلالي الخاص بالسنة الشمسية نتيجة لأبحاثه ومشاهداته.
وبعد أكثر من سبعمئة سنة من وفاته أصبحت رباعياته الشعرية سبباً جديداً في تعريفه على البشرية مرة جديدة، أما سبب ذيوع الرباعيات وأهميتها فيعود إلى موضوعها، فهذه الرباعيات ليست شعراً عادياً، وإنما هي التي (يسكنه فيها الخيام أسرار الكون والخلق والبعث وجعلت كبار شعراء لغته في الظل).
فطروحات الخيام الكبرى في الحياة والبعث والآخرة دفعت الشعراء الآخرين إلى الظل بسبب عمق نظرته وبُعد غوره.
وتاريخ الرباعيات وترجمتها ليس كما يعرف القارئ، فقد زادت على سبعين ترجمة أحصاها مؤلف الكتاب ومعدّه واطلع عليها، وهذه الرباعيات مختلفة في العدد بين نشرة وأخرى، وبين ترجمة وأخرى، وهناك خلاف بين الباحثين حول الرباعيات ونسبتها للخيام، فيرى عدد أن الرباعيات قليلة العدد، لكن زيادات طرأت عليها في الفارسية نتيجة النحل والنسج على منوالها، أو في الترجمات ومحاولة الإحاطة بالمعنى الموجز في أكثر من رباعية، ويحاول المترجم أن يتجاوز الأمر في النسبة، ليرى أنه أسلوب فكر وشعر شاع في عصر الخيام ليشكل حركة فكرية.
الخيام في العربية
نقلت الرباعيات إلى العربية على أيدي أكثر من شاعر مهم، يعددها المترجم في مقدمته، والأكثر شهرة هي ترجمة أحمد رامي لأنها كانت مغناة بوساطة أم كلثوم، فذاعت شهرتها، وفي دراسات كثيرة تنتقد ترجمة رامي، ويعدّون الترجمات الأخرى لعوض والبستاني ومعلوف والنجفي أكثر دقة، والحق إنني عدت لعدد من الترجمات، وهناك كتب جمعت أكثر من ترجمة للرباعيات في كتاب، ويمكن أن نلمح أن بعض الذين ترجموا الرباعيات، وكانوا على معرفة بالفارسية، وقريبين من نفسية الخيام وروحه، وخاضعين لظروف خاصة قدموا ترجمة تغوص في روح الرباعيات، لكنها لم تكن سلسة وتصل إلى الجوهر، وقد تكون رباعيات الخيام بنظم رامي قد خضعت لروح رامي حتى يمكن عدّها له أكثر من عدها ترجمة دقيقة، لكنها استطاعت أن تقدم الرباعيات في جوها العام إلى القارئ العربي، وأدخلت هذا الجو العميق من التفكير والتدبر في الشعر والغناء عربياً، وربما كانت هذه الرباعيات بروح رامي مستلهمة روح المعري وتفكيره في أثناء النظم الشعري. وفي كل حال فإن الرباعيات كانت قابلة في ترجمتها إلى العربية وغيرها أن تحمل رؤى الشاعر والمترجم سواء كان شاعراً أم ناثراً، وتعبر عن رؤاه هو أكثر من تعبيرها عن رؤى الخيام، أليس الدافع إلى الترجمة في الحسبان؟
الجمع والتأويل الجديد
إن ما أطلق عليه الشاعر محمد نور الدين (جمع وتأويل) كان محاولة علمية وذكية للخروج من فخ مقارنة الترجمة، وكان في الوقت نفسه دخولاً موفقاً للفكر الحداثي الجديد في قراءة الرباعيات، فاستعان الشاعر والمترجم هنا بالقصيدة الحديثة في نقل رباعيات انتقاها، ورأى أن هذه القصيدة الحديثة قد تفي بالغرض:
ستبقى وجوداً
لأني العدم
ولأني نعمة
أوهبتها الحياة
لأسألك حين أعصيك
أذنبي أم
عفوك أعظم؟
في حوار من رباعية كما رآها الشاعر يناجي الخالق، ويعيدنا إلى شاعر قديم (فإن عفوك أعظم) لكنه وجد التحرر من القصيدة العادية طريقاً للوصول إلى غايته، وهو في المقابل يضع ترجمات أخرى للرباعيات التي اختارها وترجمها، سواء كانت الترجمة شعراً أم نثراً، والشاعر المترجم هنا يبتعد عن مفهوم الرباعية الذي تحدث عنه وهو معروف من الأشطر الأربعة، ليقدم النص بطريقة نثرية غايتها المعنى، فهل يمكن أن تبقى الرباعيات بالمعنى دون المبنى؟
وهذا مثال آخر انتقاه وترجمه بطريقته، ودون وجود مبدأ الرباعيات الأشطر التي بنيت عليها الرباعيات، وسنجد من ينتقد وهو على حق، لقد وصل المعنى وغاب المبنى.
تقتلني وحشتان
وحشة في ظلام القبر
ووحشة في ظلام القلب
حيث الظلمات ثلاث
لنبقى معاً
بقاء الرحيل
فمن يطفئ العمر
وفي الصدر
فانوس حب
يشتعل
تحمل هذه الترجمات روح التأمل في الحياة والوجود كما أراد الخيام ولكنها ضحت بالبنية الشعرية، ومن حق الشعر الحديث أن يجرّب مثل هذا التجريب، ليأخذ على عاتقه هوية هذه الرباعيات وفق مفهوم آخر.
وأسأل بصدق: لو لم يضع المترجم الرباعيات مقابل ما قام بصياغته شعراً حديثاً، أفلا يمكن أن يكون النص له ولا علاقة له بالرباعيات؟ فكما قالوا عن رامي صاغها كما يناسبه، كذلك هنا هي رؤية جديدة مختلفة، ويمكن أن تكون نصاً خاصاً بشاعره وصل إليه بالتأثر والتأثير.
حل الظلام والكأس
تتقلب على الفراش
تريق الدمع
وتعطش الشراب
من يروي
ريق الوساوس
كي يتقد الفكر
أو يضيء الليل
من ظلام الليل
في كل حال هي رؤية جديدة باستحضار الرباعيات من التراث العالمي والإنساني بما يلائم روح العصر لاستعادة نماذج إنسانية راقية ترفع في النفس همة، وتدفع إلى غور المعرفة الحقة للذات والوجود.