ثقافة وفن

فاتح المدرس وحكايات البدايات والنجاح «1» … لا تنفصل عنده الحياة عن عملية الخلق الفني المبدع .. بعد مقتل والده برزت الأم التي حفرت ذاكرته طوال حياته

| سعد القاسم

وفق سجلات القيد المدني ولد فاتح المدرس في حلب في اليوم الأول من عام 1922 غير أنني أرجح أن هذا التاريخ هو تاريخ التسجيل لا تاريخ الولادة الفعلي. ويؤيد هذا ما ذكره الفنان فادي المدرس الذي قال لي: «يوم ميلاد والدي غير معروف بدقة وكانت جدتي تقول إنه كان في أواخر كانون وقت الثلجة الكبيرة.

ولكنه سُجل في النفوس بتاريخ 1/1/1922». وعلى هذا احتفل الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري بمئوية ولادته العام الماضي. وثمة حكاية تؤكد ما سبق من جهة، وتلقي بعض الضوء على شخصية المدرس ما زلت أذكر تفاصيلها رغم مرور نحو أربعين سنة عليها، حين اصطحبت إلى مرسمه صديقة بناء على إلحاحها، بعد أن حذرتها من التورط بأحاديث سطحية، لكن (هوسها) بالأبراج دفعها لتسأله عن يوم ولادته بالتحديد. التقط الأستاذ فاتح دافع السؤال فأجابها بكثير من الجفاء: «بدك تحللي لي شخصيتي من برجي. أم تريدين إخباري بمستقبلي؟ على كل حال أنا لا أعرف يوم ميلادي لأنه في الريف كان تسجيل الأولاد يتم حين تتاح فرصة للذهاب الى النفوس. وأحيانا بعد أشهر كثيرة وسنوات، وكان الموظف يسجل تاريخ الولادة حسب تقديره هو، لا وفقاً لرواية الأهل. يمكن حتى لا يعطي المنجمين والبصارات فرصة الدجل على الناس».

لم تطل الزيارة بطبيعة الحال. ولم تتكرر أبداً. ولم يحدثني عنها المعلم نهائياً. على العكس تماماً من زيارة صديقة ثانية ذكرتها في ندوة بكنيسة الصليب قبل رحيل المعلم بوقت قصير، وسأتحدث عنها في حلقة قادمة.

القسوة في الحياة

شهد فاتح المدرس باكراً مقتل أبيه على يد عصبة من المستبدين فتولت عمة له رعايته، لكنه لم يستطع العيش معها بسبب اعتراضها على ميوله الفنية المبكرة ووقوفها في وجه رغبته في الرسم، وأمام إلحاحه الشديد أعيد إلى أمه المُعدّمة التي بذلت جهوداً شاقة لتنشئة أولادها، وأعطت كل اهتمامها لمتابعتهم الدراسة، في الوقت الذي شجعت فيه اهتمامات فاتح الفنية، فكانت توفر له أوراق الرسم والأقلام رغم فقرها الشديد. وقد كان لهذه الرعاية أثر كبير في حياته اللاحقة تبدى بظهور وجه أمه في قسم كبير من لوحاته ومنها واحدة من أقدم تلك اللوحات، وقبل أن ينتقل من الواقعية إلى تجاربه التالية.

الفن واللغات

درس فاتح المدرس الفنون واللغة الإنكليزية في حلب وعالية، وشارك عام 1947 في معرض الفنانين العرب في بيت مري، ومن ثم في المعرض الأول للفنانين التشكيليين السوريين في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق، ونظم عام 1950 المعرض الأول لأعماله في نادي اللواء بحلب. كان عام 1952 العام الأهم في تجربة فاتح المدرس، ففيه شارك في معرضين أحدهما في الولايات المتحدة والثاني في السويد، إلا أن الحدث الأهم كان نيل لوحته (كفر جنة) التي احتفلت أيام الفن التشكيلي السوري في الوقت ذاته بمرور سبعين سنة على نيلها الجائزة الأولى للمعرض السنوي الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق. فاعتبر هذا الفوز فاتحة رسمية لاتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري. وبعد ذلك بعامين سافر إلى إيطاليا حيث درس لمدة ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة فيها، مرت فيها تجربته بتأثيرات سريالية. وفي عام 1960 أنهى دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة، وعاد إلى دمشق ليدرّس في كلية الفنون الجميلة فيها حتى عام 1969. وعن هذه الفترة تحث الفنان رضا حسحس في مقالة نشرها ربيع عام 1994 في صحيفة «التشكيلي السوري» تحت عنوان «فاتح المدرس كما رأيناه ونراه» جاء فيها:

«لقد كان حدثاً فنياً مهماً عودة فاتح المدرس من روما إلى الوطن. كنا يومها طلاباً في معهد الفنون الجميلة والهندسة المعمارية قادمين من محافظات أخرى مدفوعين بشوق دراسة الفن الذي لم يكن له فيها حضور إلا في أذهاننا وفي الكتب والمجلات وفيما يتناقله الأصدقاء الهواة وخفية في منازلنا. وكانت لوحة كفر جنة» عالقة في ذاكرتنا ضاجة باللون وعبق أرض الشمال. في أحد الصباحات سمعنا أن فاتح المدرس حضر إلى المعهد ليبدأ التدريس، وبدأنا نشعر بحضور شخصية فنية مبدعة في وعينا. وفي اليوم ذاته سمعنا عنه كيف دخل إحدى الغرف التدريسية الغارقة بالعتمة إلا من ضوء كهربائي مختنق مسلط على آنية نحاسية صدئة وقطع قماشية مطرزة وفاكهة قد ذبلت واختفت طزاجة ألوانها. وسمعنا يومئذ كيف اخترق فاتح المدرس هذه العتمة مذهولاً وقال: لمَ تغلقون النوافذ وتحجبون ضوء الشمس والهواء؟ ففتحها على مصاريعها فاختفت الطبيعة الصامتة خلف شاشة الضوء الصباحي الساطع. كانت تلك الصدمة الأولى التي واجهت تعاليم فنية بائدة.

الروح الحرة

احتفى الطلاب الشباب بحضور فاتح المدرس ذهنية جديدة خلاقة طال انتظارها مشبعة بروح حرة تفهم الفن تحققاً إنسانياً وجمالياً عالياً، وتطرح جانباً المفاهيم الرثة والبالية، وتفهم الفن جوهر حياة لا خيالات شاحبة لها. حاول فاتح المدرس بجهوده الخاصة الفريدة ورحابة نظراته للفن والحياة أن يخلق وسطاً فنياً قائماً على الحرية المطلعة والمسؤولية الشديدة، وفهم لغة التصوير أبجدية مستقلة بذاتها وسط أجواء يشيع فيها الانغلاق والارتداد نحو الماضي ومعاداة تفتّح الفرد والنظرة المضادة للتقدم فتحول محترفه إلى منتدى مشبع بمبادئ الحرية وطقوس الخلق والإيمان بالإبداع الإنساني والتجدد وبالشعر والموسيقا وتبادل الأفكار. لقد استطاع فاتح المدرس بشخصه وفنه أن يبث روحاً طليعية طليقة لم تكن معروفة من قبل فالتفت حوله مواهب شابة شغوفة بالإبداع الفني ورأت فيه داعماً كبيراً لها وما تبحث عنه وموجهاً فريداً لا تنفصل عنده الحياة عن عملية الخلق، لا بل تعلمت كيف تحب الحياة وترقى بثقافتها وتؤمن بالجمال رسالة لها. لقد أعلنت أعمال فاتح المدرس عن إنتاجات فنية راسخة في مفاهيم التصوير الحديث ومفعمة بقوة حضورها وإنسانيتها وعابقة بخصوصية انتمائها ألواناً وشخوصاً وبيئة وحلولاً تشكيلية تبث حضورها أينما وجدت في العالم من دون أن تفقد جغرافية ولادتها، فالأصالة بالنسبة إليه تصدر عن الأرض وعن حميمية العلاقة بالبيئة والإنسان وعن مخزون نضج حياة معيشة وعن وعي أعمق من أن يحتاج إلى استخدامات مباشرة وسطحية لمقولات إيديولوجية أو تراثية قاتلة للفن، فلفاتح المدرس معرفة واعية وعميقة بتاريخ الفنون الرافدية والمتوسطية وهو ذو معرفة خاصة أصلية بالنظريات الجمالية من أفلاطون إلى هيغل وإن لم يكن هو بالذات صاحب نظرية جمالية خاصة قائمة على أن الجمال هو الخلاص المتبقي للإنسان وهو المنقذ من طغيان القوة والغرائز وقائمة على خصوصية الانتماء لثقافة بعينها لا يمكن أن تفقد جغرافية هويتها.. (يتبع)

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن