قضايا وآراء

أوروبا والشتاء البارد

| الدكتور قحطان السيوفي

تواجه أوروبا تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، ورغم المهارة الخطابية لبعض رؤساء دولها، فإنها تقف عاجزة عن التستر على هذه التحديات للدول الـ27 المنضوية تحت الراية الأوروبية، رغم الخصوصيات التي تتمتع بها كل منها على حدة.

في مقدمة هذه التحديات أن الحرب الأوكرانية المتواصلة تأخذ كل يوم منحى تصعيدياً، مما جعل من القارة القديمة مسرح مواجهة متصاعدة وبأشكال مختلفة.

ولا نعرف بعد متى وكيف ستنتهي هذه المواجهة الجيواستراتيجية، ويعتبر الحفاظ على موقف أوروبي موحد من هذه الحرب تحدياً كبيراً، بالنسبة للدول الأوروبية وخاصة أن استمرار الحرب يعني مزيداً من الصعوبات الاقتصادية والمالية والمعيشية للأوروبيين.

استطاع الأوروبيون، إلى حد ما، التغلب على انقساماتهم، وسعوا مع الولايات المتحدة، لفرض عقوبات صارمة على روسيا، لكن تبدو أوروبا على أنها الخاسر الأكبر من الحرب، فهي غير قادرة على التوصل لتوافقات بشأن هندسة أمنها الجماعي.

يعتبر اليمين المتطرف أحد التحديات الرئيسية في أوروبا، وآخِر تجلياته وصول رئيسة حزب «إخوان إيطاليا» جيورجيا ميلوني إلى السلطة في روما، وفي فرنسا حصل اليمين المتطرف لأول مرة في تاريخه، على 79 نائباً في البرلمان.

التحدي الثاني لأوروبا بسبب تداعيات الحرب هو تواصل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأمن التزود بالطاقة؛ فالتضخم ينخر مدّخرات الأوروبيين، ويترافق مع غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بما في ذلك المواد الأولية والأساسية، وما يزيد معاناة الأوروبيين وخطورة الأزمة الراهنة أنها تحل بعد جائحة كورونا، حيث تواجه أوروبا أزمة طاقة غير مسبوقة، فقد خسرت هذا العام ما يزيد على 80 في المئة من إمدادات الغاز الروسي اللازم للتدفئة والعمليات الصناعية وتوليد الكهرباء، وارتفعت أسعار الكهرباء والغاز بنحو 15 ضعفاً ما أثر تأثيراً حاداً في الأسر والشركات.

وقد تزداد المشكلة سوءاً، فأوروبا تواجه أول فصل شتاء لها دون الغاز الروسي، الأمر الذي ينطوي على مخاطر حدوث ارتفاع أكبر في الأسعار ونقص في الغاز، وتجهد الحكومات الأوروبية في ابتداع المسكنات لتهدئة الحركات الاجتماعية والإضرابات التي يشهدها الكثير من البلدان الأوروبية للمطالبة برفع الأجور، ولاسيما أن أسعار المحروقات تحلق بشكل غير مسبوق، فضلاً عن أن توفير الغاز والطاقة الكهربائية لا يبدو مضموناً للجميع في فصل الشتاء.

من هنا يتضح أن أزمة الطاقة تشكل تحدياً جسيماً، فالتدخلات الطارئة مثل فرض حدود قصوى لأسعار الغاز من شأنها مفاقمة الوضع، وخاصة إذا تم تنفيذها ضمن السياسات الوطنية التي لا يتم التنسيق بينها.

شهدت فواتير الكهرباء والغاز في دول الاتحاد الأوروبي، ارتفاعات قياسية خلال الشهور الأخيرة، وسط توقعات بالمزيد، وهو ما يرهق ميزانيات الأسر، ويضاعف أعباء المعيشة، وتزيد المخاوف من استمرار نقص الإمدادات وانقطاع الكهرباء، ما ستكون له تداعيات وخيمة على اقتصادات منطقة اليورو التي تواجه شبح الركود.

فقد خفضت روسيا تدريجياً تدفقات الغاز عبر خط «السيل الشمالي»، وأيضاً عبر طرق أخرى، بعد فرض عقوبات غربية عليها.

وتؤكد الدراسات أن النمو في أوروبا سيكون محدوداً جداً إن لم يكن معدوماً، وينعكس ذلك سلباً على الاستقرار.

ورغم محاولات الدول الأوروبية ملء مخزونات الغاز الطبيعي، لكن الخبراء والمحللين يرون أن هذه المخزونات لن تكون كافية لحل أزمة الطاقة هذا الشتاء.

من جهة أخرى هناك تحديان متداخلان يواجهان أوروبا، الأول تحدي البيئة، والثاني تواصل الهجرات غير الشرعية باتجاه القارة العجوز، علماً أن التغيرات المناخية بما تتسببه من مجاعات ونزاعات وحروب تُعدّ سبباً رئيسياً لتواصل الهجرات من المناطق الفقيرة في آسيا وإفريقيا باتجاه أوروبا، حيث ازدادت أعداد المهاجرين بنسبة 77 بالمئة عما كانت عليه في العام السابق، وهي تتسبب بأزمات سياسية واجتماعية داخل البلدان المضيفة يضاف لذلك الهجرات المكثفة للأوكرانيين في الأشهر الأولى للحرب، بالمقابل شرعت الحكومات الأوروبية في إصدار مجموعة من الإجراءات على صعيد السياسات، وتهدف إحدى هذه السياسات إلى التخفيف من تأثير ارتفاع التكاليف في المستهلكين والشركات، ويتضمن ذلك حدوداً قصوى لأسعار التجزئة، وتعريفات تخضع للتنظيم، وضمان أمن الطاقة.

ختاماً، ثمة تساؤلات تثيرها هذه التحديات في شتاء شديد البرودة،

كيف تواجه أوروبا الشتاء البارد من دون الغاز الروسي؟ الأزمة ظهرت بعد فرض العقوبات على روسيا وتدمير أنابيب غاز «السيل الشمالي» بعمل تخريبي متعمد، ما أدى لارتفاع أسعار الغاز بنسبة وصلت إلى 400 بالمئة وشكل تهديداً وجودياً للصناعة الأوروبية والقدرة المعيشية في شتاء سيكون الأقسى على القارة العجوز.

ما قدرة أوروبا على الصمود، وما إمكانية تسقيف أسعار الغاز العالمية، وهل ينطبق ذلك على غاز الولايات المتحدة الأميركية الذي تبيعه بأربعة أضعاف سعره؟ ما جدوى عقوبات الغرب على موسكو التي أنهكت أوروبا على حين وجدت روسيا البدائل سريعاً وتكيف اقتصادُها ما شكل صدمة لواشنطن على وجه الخصوص؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن