ميخائيل نعيمة .. مُتعبّد أقامَ محرابه في الصّخر… حياً وميتاً
| نجاح إبراهيم
ثمّة فتنة خرساء أغوت المتعبدَ، شدّته لأن يكتب عنها.
وثمّة مقال كتبه قبل أن أخلق، شدّني لأن أزورها.
هذه الفتنة ينضحُ بها جبل صنين، الذي وجدَ فيه ميخائيل نعيمة منهلاً ثرّاً للتأمل والكتابة، فبماذا سالَ الحبرُ؟
«تباركتِ الصّخورُ..
تبارك أسْودُها، وأبيضها، وما اتكأ وما اضطجع، وما قعد القرفصاء، تبارك ما انفرد واعتزل، تبارك عروشاً للبدور والنسور، ومساكن للعصافير، ومعابد للنساك، ومقائل للرياح والنسائم، تبارك صمتها ما أفصحه، وسكونها ما أرهبه! تباركت، تباركت الصخور».
هل هو حدس الشاعر، وفراسة المبدع في قراءة الآتي؟
وكأنّ ميخائيل نعيمة يعرف أنه سيرقد إلى الأبد في أحضان الصّخور، هو الذي عبّر عن مودةٍ عميقةٍ بينه وبينها، ما استطاع حين كتب مقاله في أربعينيات القرن الفائت، ونشره في مجموعة « البيادر» عام 1945أن يفسّر هذه المودّة، ولا تحديد الزّمان الذي نشأت فيه!
ولكنّه اعترف: «أحسّها عميقة وثيقة، بعيدة الغور والقرار، فلعلها تعود إلى يوم كنتُ طينة في يد الله».
أراد أن يلتصق بالصّخور تلك المنتصبة الموجودة، التي عكست له كلّ ألوان الشموس، وبهاءات الأقمار، ومدّته بوهج الهجيرة، ولم تبخل بظلال السّحاب، ورطوبة الضباب، إضافة إلى سيمفونية أزليّة كان يسمعها، تعزفها الأزمنة، لقد فتنته فارتبط بها، تعلق بها إلى درجة العشق والهيام، هذا الارتباط جعله يبحثُ عنها، فكان أن رآها من بعيد، راح يتملاها جيداً، فيكتفي بما تختزنه عيناه من مشاهد أنسها وهدوئها، ووقارها، يدرك مودّتها، وإذا ما أتيح له أن يلاقيها، أو يعثر على إحداها – إذ لا فرق لديه بين حجومها وأشكالها ولونها، كان يعشقها فحسب وكيفما كانت – فيُحس جذلاً في دمه، وانتشاء يتقافز بين جنباته، وإن تمكن من لمسها، مدّ لها أصابع مترفة بالرّفق والمودّة، مناشداً إياها أن تحتضنه حين تفارق الرّوح الجسد، لأنه يرى فيها تماسكاً من الألفة آيات لا يمكن لامرئ أن يتلوها كاملة، ووجد فيها تراصّاً يسردُ ملاحم، وفي تساندها عظات بليغة، وفي تشابكها عبّر عنه في مقالته قائلاً: «هندسة تبهرُ البصر، وفي تكوينها أشكالٌ تحيّر الفكر، وفي أشكالها رسومٌ وتماثيل ورموز لا يدركها خيال، وكم تجرّأ ودخل أعماقها التي لا تنفذ إليها الشمس، فاحتضنته كامرأة ترغب بأمومة فتودعه في أحشائها، ليرى أمكنة مظلمة وكهوفاً، ومغاور، أحياناً تضيقُ، وأحياناً تتسعُ، مرّة تستقيمُ، ومرّة تتعرّج، وتتشعّب، وتمتدّ إلى ظلمات كثيفة، سحيقة تختزنُ غموضاً وسريّة أبت أن تخترقها حرارة أو شرارة.
وكثيراً ما اكتشف أماكن بتول، لم تفض بكارتها، ولم تلمسها يد إنسان ولا وطئتها قدم، هذه الأماكن ليس لها علاقة سوى بالرّيح والبحر والسماء المشرعة فقط.
مشينا طويلاً في الدّروب الضّيقة بين الصّخور، تظللنا أشجار البلوط التي نبتت بين الصّخور، وما يلفت الانتباه ويدفع إلى الاحتفاء ثمرات البلوط المرتمية والمتساقطة في الدّروب الصّغيرة، والتي دفعتني لأن ألتقطها وأبارك بها بيتي، وخاصة تلك التي كانت على غصن كان مخيماً فوق ضريح ميخائيل نعيمة، قطفتها وجلبتها معي مفعمة برائحته وبأنفاسه، ما زلت أحتفظ بها على الرّغم من مرور سنوات طويلة.
إذاً.. اهتدينا إلى المكان كما اهتدى هو إليه قبل عقود، ربّما ذات صيف، ولم يعد يرغب بمفارقته، أراني أتخيّل كيف اتّخذه قبلة، فألفه أكثر من منزله، وراح يزرعُ أياماً ينتشلها من العمر ويلقيها في أرجائه، حتى إن بعض أصدقائه أطلق عليه اسم «مدينة الأشباح» إذ يبلغُ الصّمت فيه صمت الأموات، ولكن ميخائيل نعيمة عشقه واتخذه محراباً يقيم فيه عبادته، وتذكرت مقال المتعبد عن هذه المدينة الذي ذكر فيه: «.. أما مدينة الأشباح، فتشغل حيّزاً ضيّقاً من الأرض، لا يتجاوز المئتي متر طولاً وعرضاً، ما من صخر هناك، ضخماً كان أم ضئيلاً، إلا كان ذا قدر وقيمة، وكان حيث هو حرفاً لا يمكن استبداله بسواه، أو نقطة لا غنى عنها كالنقطة التي تميّز النون من الباء».
واقتربنا، كان يتفكر بهذا الكون كما هي عادته، تمثاله النصفيّ كبير جداً، يوضّح القسم العلوي، حيث الكتفين والرّقبة والرّأس، يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق تضبط تجاعيد العنق، متأملاً الطبيعة، أصابع يده اليسرى على وجهه، إصبع تتجه باستقامة نحو صدغه، واثنتان وضعهما على ذقنه، وابتسامة العارف الرّاضي ترتسمُ على ثغره.
كان منسجماً مع ذاته، يسكنُ في هدوءٍ وتناغمٍ مع الطبيعة السّاكنة، فحياته بدت كما كانت عليه قبل وفاته، ليس فيها عنف ولا صخب، وإنّما هدوء وسكينة، حتى كتاباته كانت صدى لهذه الهدأة، فمن قرأ ديوانه «همس الجفون» فإنّه يلمح ذلك، ابتداء من عنوانه إلى القصائد التي فيه.
لقد تميّز ميخائيل نعيمة بحبه للطبيعة، واندماجه فيها اندماج عاشق مدنف، لما توفره له من جمال وروعة وصفاء وتأمل، كان مؤمناً بها كإيمانه بالله وخيال الإنسان، إذ كان يعتبره، أي الخيال، قادراً على الارتحال والانطلاق في كلّ الأمدية والأبعاد، فهو حرّ غير مقيّد، في حين العقل فبرأيه قاصر على إدراك الذات الإلهية.
هذا الانسجام مع الطبيعة كما قلنا خلق منه فيلسوفاً، يرتدي مسوح شاعر، أو شاعر يلبس أردية فيلسوف، وقد تجلى ذلك من نثره، وشعره، وذلك في قصيدة له بعنوان «من أنتِ يا نفس؟» يتساءل عن مصدر النفس الإنسانية، هل أتت من أمواج البحر، أم انحدرت مع الرّعد، أم انفصلت عن البرق، أم تراها انبثقت من الفجر، أم هبطت من الشمس، أم ولدت من الريح، أم إنها من الألحان؟ ثم يقول بعد كلّ هذه التساؤلات:
إيه نفسي! أنت لحن فيّ قد رنّ صداه
وقعتك يدُ فنان خفيّ لا أراه
أنت ريح ونسيمٌ، أنت موج
أنت برقٌ، أنت رعد ، أنت ليل
أنت فجرٌ، أنت فيض من إله.
إنّها كلّ هذه المتناقضات، إنها ولا شك برأيه بعض عطاءات الإله.
حين رأيت تمثاله يجلوه الصّمت والرّهبة، تذكرت تمثال أبي الهول، إذ تجمعهما السّكينة والعبادة والعزوف عن كلّ ما يشغل الناس، كان انقطاعاً لافتاً إلى التأمل، ألم يقل سابقاً: «ألجأ إلى هذا المكان في أيام الصّيف، كلما تاقت نفسي إلى التعرّي من مهرجان الناس ومشاكلهم، وعناكب المعيشة وأوصابها، وإلى الاستحمام في بحور السّكينة التي لا شواطئ لها». هأنا أنظر إليه، لقد بات مقيماً هنا في كلّ الفصول، بات في جوف صخرة كبيرة، تحرس مدخلها بطمة وبلوطتان، وهدوء لا قرار له، وإذا خالط قدسية هذا الهدوء صوت، فهو صوت زقزقة عصفور، أو طنين نحلة تبحث في خضمّ هذا المكان عن رحيق، أو رفة جناح، أو وشوشة النسائم بين أوراق البطمة والبلوطتين، واليوم خالط الهدوء إضافة إلى ما ذكر، دقات قلبي، وبعض همسات الكوكبة التي ترافقني.
إلى الأسفل من التمثال المنحوت في الصّخر لحدٌ للمتعبد، الذي أقام فيه، كان باب اللحد مفتوحاً قليلاً، كتب عليه عبارات من تأليفه جاء فيها:
«طفلك أنا
«طفلك أنا يا ربي،
وهذه الأرض البديعة، الكريمة، الحنون،
التي وضعتني في حضنها
ليست سوى المهد، أدرجُ منه إليك».
حين جلست القرفصاء أمامه طلب مني الأستاذ هاني مندس، أن أفتح الباب الحجري، وللوهلة الأولى مددت يدي لأفعل، فانطلقت ضحكة مجلجلة منه، أردف بعدئذ: إن كلّ من زار القبر يحاول فتح بابه!.
وأمام الباب استلقى كتابٌ حجريّ وبجانبه قلم، كأنهما يدعوان الزائر لأن يخط بيده ما يجول في خاطره من مشاعر وأفكار وأحاسيس إبان زيارته للضريح.
رحتُ أنظر إلى ما يعلو التمثال، حيث مدى من الصخور، فأينما امتدّ نظرك تجد صخوراً بيضاء تشي بنقاوة فريدة يكسوها صمت أبيض، فتظنُّ أنها تدخل في غيبوبة بيضاء، أو قران سريّ عقد بينها وبين ينابيع الخلود! وعجبت كيف للصّخور التي أقف إلى جانبها أن تحتمل كلّ هذا الثقل؟! ألم يقف مثلي الفيلسوف ميخائيل ذات زمن، وينظر إليها ويعجب للتي في الأسفل كيف لا تنسحق تحت ما تحمل من الأثقال؟ بلى قد تفكر وتأمل وتساءل: «كيف لا تشكو ولا تئنُّ ولا تُسحق؟! كيف للصّخور في الأعالي أن تثبت قروناً تلو قرون ولا تصاب بالدّوار، فتهوي إلى أسفل.؟».
وأضغط على جبهتي، لقد أصابني دوار، ولكن مم؟ بالتأكيد من روعة وجلال المكان أولاً، وثانياً من عظمة الإنسان الاستثنائي الرّاقد هنا، والإنسان الاستثنائي الرّاقد هنا، وأنا أقيم في حضرته ومداه، وأستلهم من كتاباته معنى الحياة، ألم يقل في قصيدة له كتبها عام 1924:
«وعندما الموت يدنو واللحد يفغر فاه
أغمض جفونك تبصر في اللحد مهد الحياة».
ففي هذا القبر الذي أجلس بهيبة أمامه، يفور نور الحياة، وإلا ما معنى أن نذكر ميخائيل نعيمة ونردّد ما كتب من نثر وشعر؟!