قضايا وآراء

الاستغلال الغربي لاحتجاجات الصين

| عبد المنعم علي عيسى

لا شيء يمكن أن يثير الاهتمام الأميركي راهناً كما يثيره أي حدث يجري على الأرض الصينية التي باتت أحداثها تمثل الشغل الشاغل لواشنطن في إطار سعيها الرامي لوقف توسع الشرخ الحاصل في نظامها العالمي الذي تهيمن عليه تماماً منذ نحو ثلاثة عقود أو تزيد، فالمؤكد لدى هذي الأخيرة هو أن «المقص» الروسي كان قد نجح في خلق «فتق» في قماشة ذلك النظام لكن من دون أن يستطيع حتى الآن إكمال مساره وصولاً إلى فصل نسجه بعضها عن بعضٍ إمعانا في تمزيقه والإعلان عن أنه بات «باليٱ» تماماً، وهو ما لم يستطع، ذلك المقص، النجاح فيه حتى الآن، لكن مسرى الحركة كان يشير دائماً إلى أمر هو في غاية الأهمية، فكلما تقدم المقص خطوة كانت الخطوات ما بين بكين وموسكو تزداد اقتراباً، الأمر الذي بدا ملحوظاً منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أواخر شهر شباط المنصرم، والخشية هنا أن تزداد الخطوات اقتراباً أكثر بما يحتم نشوء «تحالف» من نوع ما يمكن من خلاله زعزعة الهيمنة الأميركية على العالم، الأمر الذي لا يبدو قريبا حتى الآن، ومع ذلك فإن هذا التقارب الذي بدا أنه يتخذ منحنى بيانياً متصاعداً تبعاً لتطورات الميدان في أوكرانيا وتداعياتها على الاقتصاد العالمي، بات يمثل التحدي الأكبر الذي تواجهه واشنطن منذ العام 1991 حتى اليوم، ولربما كان ذلك كافياً لتفسير وضع الأحداث الصينية بأدق تفاصيلها تحت «المجهر» الأميركي المعني برصدها ثم وضعها في القوالب الخادمة للسياسة الأميركية التي باتت تدرك أن التصويب على موسكو وبكين دفعة واحدة، بعكس ما كان معمولاً به في السابق، أمر له محاذيره المتعددة ثم أن الفشل هنا يعني حتما الذهاب في سيناريوهات غير محمودة أقلها اهتزاز القبضة التي لن يطول بها ذلك الوضع حتى تنفرط قدرتها على الإطباق بما تمسك به.

لم ينقض شهران على المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني الذي كرس زعامة الرئيس شي جين بينغ بدرجة حاذى فيها، إن لم يتجاوز، مرتبة المؤسس ماو تسي تونغ، وكذا صدر للعالم صورة عن ميل داخلي للصين نحو «مركزية» في القرار من النوع الذي يشي بصلابة النظام وتماسكه، حتى جاءت أزمة «أورومتشي»، قبل أسبوعين عندما لقي عشرة أشخاص حتفهم في مبنى سكني بعد أن اندلعت النيران فيه، والمهم في الموضوع هنا هو أن التشخيص «المجتمعي» لتلك الحادثة كان قد أشار بأصابع الاتهام إلى «صفر كوفيد» السياسة التي انتهجتها بكين لمقاومة جائحة كورونا قبيل نحو من عامين أو يزيد، فعلى الرغم من النجاحات التي حققتها تلك السياسة إلا أن آثارها بدت ثقيلة الوطأة على مفاصل الحياة المجتمعية والاقتصادية للبلاد، لكنها، كما يبدو، كانت أشد وطأة على الشرائح «الطرية» التي لم يشتد عودها بعد منذ أن نجح النظام الصيني بانتشالها من «براثن الفقر» عبر الحملة التي أطلقها بين عامي 2015 – 2020 والتي نجح من خلالها برفع 100 مليون صيني من مرتبة «الجياع» إلى مرتبة «المكتفين» تماماً.

كانت الشعارات التي رفعها المتظاهرون أمام بلدية «أورمتشي» من النوع المقلق كون رافعيها كانوا، في جلهم، ممن استهدفتهم حملة «مكافحة الفقر» آنفة الذكر، لكن القلق أضحى مشروعاً أكثر عندما تمددت تلك التظاهرات إلى بكين عاصمة البلاد السياسية وإلى شنغهاي عاصمتها الاقتصادية، وإذا ما كانت محاور المطالب قد تركزت في البداية على إنهاء تدابير الإغلاق وتوسيع هامش الحركة، فإن بعضه ذهب نحو تمددات أوسع وهي من النوع الذي يجب التوقف عنده.

كان التلقف الغربي لـ«كرة أورمتشي» سريعاً وبادياً بوضوح وعلى كل المستويات، وفي الأعلى منها قال الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إن الرئيس الأميركي جو بايدن «يتابع ما يجري في الصين عن كثب، وهو يدعم حقوق المتظاهرين»، على حين ذهبت وزارة الخارجية الأميركية للتشكيك في «نجاعة سياسة صفر كوفيد»، لكن التصريح الصارخ كان لرئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الذي قال إن الصين تشكل «تحدياً منهجياً لقيم ومصالح بريطانيا» قبيل أن يذهب لـ«التبشير» بأن العصر الذهبي للعلاقات البريطانية الصينية الذي ساد زمن سلفه ديفيد كاميرون قد «مضى إلى غير رجعة»، وفي المستويات الدنيا لذلك التلقف، وسرعان ما خرجت التظاهرات في الجامعات الأميركية تعبيراً عن مساندة المحتجين الصينيين في «معركتهم من أجل الحرية»، أما الصحف الأميركية فقد مضت نحو تحليلات قال بعضها إن الصين تشهد احتجاجات هي الأهم مما شهدته البلاد منذ العام 1989 الذي شهد احتجاجات طلابية شكلت مفترق طرق للمسار الصيني وقد اجتازته القيادة الصينية بزعامة دينغ هسياو بينغ بنجاح مذهل، أما الـ«نيويورك تايمز» فقد عنونت «احتجاجات الصين على صفر كوفيد بعد أشهر من الألم الاقتصادي»، وهذا كله يشير بالضرورة إلى تحريض غربي أميركي على الصين فيما دلالات هذا الأخير هو أنه انتقل من إطاره السياسي السلطوي إلى إطارات أعم وأشمل تبدأ عند الإعلام ونخبه ثم تصل إلى الحالة المجتمعية شبه العامة في مؤشر على نجاح النخب الحاكمة في الغرب في نقل الصراع الدائر راهناً ما بينها وبين الصين إلى مستوى شارعها الذي بات يتبنى خطاباً عدائياً في مواجهة «النموذج الصيني».

استطاعت الصين حصر دائرة النار عبر منظومة «التدخل السريع» المتعددة الأغراض الحاضرة على الدوام كما يبدو، لكن ما جرى لا بد له أن يترك «ندبات» من النوع الذي لا يزول عن سطوح التجربة والتي لا يزال يلزمها الكثير لكي تزداد تعمقاً في ذات الصينيين، والراجح أن «الثورة على الفقر» التي أطلقتها القيادة الصينية بين 2015 – 2020 تحتاج إلى طبعات وطبعات عديدة منها، فمئة المليون التي نجحت تلك الثورة في انتشالهم من براثن العوز لا يزال هناك نظائر لهم ممن يصلحون للاستهداف الغربي الذي باتت خياراته تقول إن لا شيء يمكن له وقف هذا التنين ما لم يكن نخره داخلياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن