قضايا وآراء

أميركا وديمقراطية الفوضى

| محمد نادر العمري

أخيراً، نجح مجلس النواب الأميركي بأغلبيته الجمهورية أن يختار زعيماً لهذه الأغلبية إلى جانب رئيس لمجلس النواب، بعد أربع عشرة جولة من المحاولات التي باءت بالفشل، في ظاهرة ليست الأولى من نوعها بتاريخ النظام السياسي الأميركي، في انتقاء شخصية أو شغل منصب يصنف في الدرجة الثالثة من الأهمية بعد الرئيس ونائبه.

إذ شهدت الولايات المتحدة الأميركية وقبل قرن من الزمن حالة مماثلة عند تمكن فريدريك جيليت في عام 1923 أن ينتزع رئاسة المجلس بعد 9 جولات تصويت استمرت على مدى يومين، في حين شهد عام 1856 المرة الأولى والأطول التي امتد فيها التصويت لرئاسة المجلس، حيث انتخب ناثانيال بانكس بعد 133 جولة.

ولكن ما يميز هذه الحالة الأخيرة أي صعوبة وصول كيفين مكارثي لرئاسة مجلس النواب، هو وضع الولايات المتحدة الأميركية بشكل عام في النظام الدولي وصراعها مع خصومها في إطار سعيها للحفاظ على هيمنتها الدولية وشنها العديد من الحروب بذريعة نشر الديمقراطية، وكذلك وضع الحزب الجمهوري بشكل خاص والانقسام الذي بات واضحاً ومسلماً به داخل بنيته الهرمية، ولاسيما بعد ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

عبرت الجوالات الخمس عشرة من المناكفات والتجاذبات وحتى المساومات على مستوى الحزب الجمهوري، على حقائق متعددة لا يمكن إنكارها، حتى من النخب الفكرية والسياسية الأميركية:

الحقيقة الأولى أن ظاهرة الديمقراطية التي طالما تغنى بها الأميركيون والغرب هي ليست ظاهرة واقعية حقيقية، والدليل على ذلك أن الصراعات والتجاذبات والتنافس والابتزاز يحصل على مستوى حزبين أو أكثر في أي استحقاق كان، وليس على مستوى الحزب الواحد، وهو ما يؤكد أن الديمقراطية الأميركية هي ديمقراطية ابتزاز على المستوى الداخلي كما هو الخارجي، وهو ما دفع كلاً من إيرين باغوت كارتر، وبريت كارتر، ولاري دايموند، وهم أساتذة وباحثون في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ستانفورد ومعهد هوفر التابع للجامعة نفسها، للتأكيد في مقال مشترك لهم بمجلة «فورين أفيرز» بأن الديمقراطية الأميركية في طريقها للاضمحلال، مؤكدين في الوقت ذاته أن هناك العديد من الشواهد على ذلك، بما في ذلك انقسام الجمهوريين في الذكرى الثانية لاجتياح الكبيتول في انتخاب رئيس لمجلس النواب الأميركي.

أما الحقيقة الثانية فإنها تتمثل بانقسام القوى التيارية داخل الحزب الجمهوري، ما بين تيارين الأول الذي دعم انتخاب مكارثي، ويطالب بضرورة الحفاظ على معتقدات وأدبيات وأسس الحزب الجمهوري، والتيار الثاني اليميني المؤيد لفكر ترامب وهيمنته داخل الحزب، والذين وضعوا العراقيل أمام انتخاب مكارثي رغم تأييد ترامب شخصياً له، ودعوته لأعضاء الحزب لانتخاب مكارثي لاستكمال النصر العظيم الذي حققه الجمهوريون في الانتخابات النصفية وفق وصف ترامب.

في الواقع هذه الحقيقة الثانية والمتمثلة بالانقسام السائد في الحزب الجمهوري، تؤكد من ناحية حقيقة الانقسام البنيوي والتنظيمي للحزب، وهو ما قد يمهد لحصول انشقاقات أو تفرعات ناجمة عن انسحاب كتلة من الحزب وتأسسها لقوى وحركات وربما أحزاب جديدة، على غرار حركة الشاي الأميركية، ومن ناحية ثانية يؤكد هذا الانقسام رفض شريحة من الجمهوريين لترشح الرئيس السابق دونالد ترامب مرة ثانية لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية في عام 2024، وخاصة بعد أحداث الشغب التي رافقت خسارته أمام جو بايدن عام 2020، والتي تمثلت في اجتياح الكونغرس، بينما تتجلى الناحية الثالثة في الابتزاز الذي مارسه ما يقارب من 20 عضواً من نواب الجمهوري على مكارثي، فهم لم يقدموا أي دعم له في تغيير توجهاتهم إلا بعد الحصول على ضمانات من مكارثي لتلبية مطالبهم، مثل حصولهم على ضمانات تكفل «إجراء» يهدف إلى تسهيل الإطاحة برئيس مجلس النواب، علماً بأن أربعة نواب ظلوا يلقون بثقلهم لعرقلة المسار وإطالة التشويق حتى اللحظة الأخيرة، إلى جانب حصولهم على رئاسة بعض اللجان الفرعية في مجلس النواب، والمطالبة بمساءلة الرئيس جو بايدن والوقوف ضد مساءلة ترامب، والسعي لتخفيضات حادة للإنفاق وغيرها من القيود على سلطاته، وهو ما قد يؤدي إلى المزيد من الاضطرابات خلال الأشهر المقبلة، وخصوصاً عندما يحتاج الكونغرس إلى الموافقة على زيادة أخرى متوقعة في سلطة الاقتراض البالغة 31.4 تريليون دولار.

أما الحقيقة الثالثة فتكمن في سعي الديمقراطيين ولاسيما الرئيس جو بايدن من الاستفادة من هذه الحادثة لتعزيز موقعهم الانتخابي في الانتخابات العامة لعام 2024، على غرار ما حصل في أثناء أزمة كورونا والكابيتول، إذ شكل انقسام الجمهوريين حول انتخاب رئيس مجلس النواب، مادة دسمة متوقعة في البرنامج الانتخابي للديمقراطيين لتعويض خسارتهم الجزئية في الانتخابات النصفية مؤخراً، والتي جعلتهم يفقدون أغلبيتهم في مجلس النواب، وهذا الاستثمار الانتخابي المبكر تجلى في تصريح بايدن عندما قال: «إن عدم قدرة الجمهوريين في مجلس النواب على التوحد خلف مرشح لرئيس المجلس، والذي منع الغرفة من بدء عملها التشريعي، بأنه أمر محرج ولا يبدو جيداً للبلاد»، مضيفاً: «باقي العالم يشاهد المشاهد المفوضية في مجلس النواب».

نجاح الجمهوريين في انتخاب رئيس لمجلس النواب بعد المخاض العسير التي شهدها ماراتون الجولات، هو تعبير عن حالة وحيدة لا ثانية لها، وهي أن الديمقراطية التي تتغنى بها الولايات المتحدة الأميركية، وتنصب لها التماثيل، وتشن من أجلها الحروب، هي ديمقراطية حبلى بالفوضى، حتى لو أن هذه الفوضى كانت على حساب شعبها وشعوب العالم على حساب تحقيق المصالح وتصفية الحسابات الشخصية وغير الشخصية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن