تمر بعد أسبوعين في الثلاثين من كانون الثاني الجاري الذكرى الخامسة والسبعون لاغتيال المهاتما غاندي، والحقيقة أن غاندي له مكانة عليا في عقلي وقلبي، بل له حضور مستمر وحي في بيتنا فكلما ناديت ابني رام أو جئت على ذكره، يبرز غاندي في خلفية الكلام، لأن غاندي هو من جعلني أسمي ابني رام، فعندما زرت متحفه في نيودلهي مطلع ثمانينيات القرن الماضي رأيت فوق تمثاله الأبيض الضخم آخر كلمتين تلفظ بهما قبل أن تصعد روحه الطاهرة إلى باريها؛ وهما «هِيْ رام» ومعناهما الحرفي «آه يا رام» ورام هو أحد أبرز الآلهة المعبودين من الهندوس.
من المعروف أن شاعر الهند الأكبر رابندرانات طاغور قد أطلق على غاندي لقب «المهاتما» وهو يعني الروح العظمى، لأنه دعا إلى وقف التمييز ضد المنبوذين، كما دعا أبناء دينه من الأغلبية الهندوسية إلى احترام حقوق الأقلية المسلمة، فاعتبر المتعصبون دعوته هذه «خيانة عظمى وقرروا التخلص منه». وبينما كان في طريقه للصلاة أطلق عليه أحد المتعصبين الهندوس ثلاث رصاصات من مسافة قريبة.
اعتنق غاندي ما عرف بـ«المقاومة السلمية» واشتهر بها لدرجة أن الأمم المتحدة تحتفل باليوم العالمي لللاعنف في الثاني من تشرين الأول الذي يصادف يوم ميلاد غاندي. لكن كثيرين دعوا إلى مبدأ اللاعنف قبل غاندي وبعده لعل أبرزهم الأديب والفيلسوف الروسي ليف تولستوي والأميركي هنري ديفيد ثورو.
أمضى غاندي معظم حياته في السجون بسبب مواقفه وتأثير كلماته العميق على الشعب الهندي، وكان طوال حياته مناصراً للقضايا العادلة وعلى رأسها قضية فلسطين، فعندما صدر وعد بلفور أعلن رفضه له واعتبر أنه «غدر بمقدسات 70 مليون مسلم في الهند»، وقد حاول المثقفون الصهاينة استمالة غاندي، لكن محاولاتهم باءت بالفشل وعندما تصاعد إلحاحهم عبر عن رأيه من خلال جريدة «الهاريجان» أي «أبناء الله» التي أطلقها في 26 تشرين الثاني عام 1938، فقال: «إن فلسطين للعرب كما هي إنكلترا للإنكليز، وفرنسا للفرنسيين، وإن ما يحاول اليهود فرضه في فلسطين لا يمكن تسويغه بأي قانون أخلاقي… إن تحويل أرض العرب الأباة الذين تمتلئ بهم فلسطين، إلى اليهود، كلياً أو جزئياً، على أنها وطنهم القومي، إنما هو جريمة ضد الإنسانية» وتنبأ للكيان الصهيوني قبل إنشائه بأنه: «لن يكون سوى إضافة جديدة لمستعمرات الرجل الأبيض وقاعدة لحماية المصالح الاستعمارية». ولهذا لا يخفي الصهاينة حقدهم عليه فقد وصفه قيادي صهيوني في الهند بأنه «قديس زائف وغبي». والحقيقة أن اغتيال غاندي لا يزال مستمراً، ففي عام 2015، جرى تشويه تمثال لغاندي في جنوب إفريقيا، وفي عام 2017 طرح عبر موقع أمازون لبيع التجزئة إعلان عن قباقيب عليها صورة غاندي، وفي عام 2018 أصدرت محكمة في مالاوي حكماً بإيقاف العمل في تشييد تمثال لغاندي بعد اتهامات بأنه كان عنصرياً، وفي عام 2019 وبالتزامن مع الذكرى الـ150 على ميلاد غاندي، قام لصوص بسرقة «رفاته» من نصبه التذكاري. كما تستمر محاولات تشويه صورته، فجوزيف ليليفيلد رئيس تحرير «نيويورك تايمز» سابقاً أصدر كتاباً زعم فيه أن غاندي كان يحمل أفكاراً عنصرية تجاه السود، وقام الأكاديميان آشوين ديساى وغلام فاهيد باجترار المعلومات نفسها في كتاب آخر وصفا فيه غادي بـ«حامل نقالة الإمبراطورية»، وعندما تجرأ حفيد غاندي آرون المقيم في أميركا على القول: «إن إسرائيل لاعب كبير في نشر «ثقافة العنف» في العالم، قامت القيامة عليه واضطر لأن يعلن اعتذاره ويقدم استقالته من منصبه كرئيس لأحد معاهد نشر السلام في الولايات المتحدة».