قضايا وآراء

تداعيات محتملة للتقارب السوري- التركي

| عبد المنعم علي عيسى

رمت الأزمة الأوكرانية بأثقالها على مناخات العالم السياسية والاقتصادية برمتها، ثم أشاحت في بعض منعرجاتها عن ملامح تبدى من خلالها احتمالية الوصول لـ«المحظور النووي» الأمر الذي إن وصلته فربما سيشكل الفعل بداية مرحلة جديدة للحياة البشرية على سطح هذا الكوكب، لكنها وضعت الأزمة السورية أمام احتمالية أن تندفع ملفاتها إلى الأدراج السفلى التي يعني الوصول إليها دخول تلك الملفات مرحلة النسيان أو الفتور الذي يدفع الأطراف الفاعلة فيها للتعايش معها كجرح نازف لا سبيل الآن لمعالجته، والمؤكد أن تلك الوضعية تتأتى بقوة انطلاقاً من حال التنافر الروسي الأميركي الحاصل ما بعد 24 شباط 2022 والذي طال خطوط التماس ما بين الطرفين كلها، ومن بينها خط التماس السوري الذي لم يكن ينقصه اندلاع انفجار كبير، بحجم الانفجار الأوكراني، لكي يصبح ذلك الخط ملتهباً كما هو عليه الآن.

هنا وجدت موسكو التي أثقلها الصراع السوري، نفسها مضطرة لإحداث شقوق، بشتى أنواع الأزاميل التي تمتلكها، في الجدارات التي تشكلت أساساً بفعل عوامل عدة لعل في الذروة منها تضارب المشاريع الإقليمية التي غالبا ما تكون ظلالاً لنظيرة لها دولية، حتى استقرت الرؤية لدى موسكو، بإعطاء مسار «أستانا»، الذي رعته منذ نشوئه العام 2017، جرعة «منشطة»، من شأنها أن تعيد إليه جزءاً من حيويته التي افتقدها، ثم من شأنها أن تغير الكثير من «قوالبه» التي بات عليها في غضون السنوات الخمس المنصرمة من عمره، بينما كانت تلك الرؤية تؤكد لأصحابها بأن كل النسج التي ستتلقى تلك الجرعة سوف تستجيب لها لأنها باختصار باتت كلها متعبة.

يسعى الحراك الروسي الراهن تجاه الأزمة السورية إلى إنضاج حل سياسي «جزئي»، بمعنى أنه يتجاهل الدورين الغربي والأميركي أو هو يسعى إلى فرض ذلك الحل عليهما كأمر واقع، والمؤكد أن الدور التركي لو صدقت نياته حتى النهاية من جهة ثم استطاع مواجهة الضغوط الأميركية التي ستتكاثف عليه دون شك من جهة أخرى، فسيكون محورياً في إنجاح ذلك الحراك الذي اعتد في الآونة الأخيرة بـ«مظلة» عربية تمثلت بالاندفاعة الإماراتية التي مهما قيل فيها، فإنها تشير للكثير مما يعتمل في دواخل كثيرين أرادوا أن يكونوا خارج المشهد لحين خروج «الدخان الأبيض» الذي سيكون من دمشق تحديداً، وعلى الرغم من العقبات العديدة التي تعترض ذلك المسار، إلا أن حظوظه تبدو جيدة في النجاح قياساً أيضاً لمعطيات عدة، فهو في حال نجاحه سوف يؤدي إلى «شد الخناق» على الوجود الأميركي في شمال شرق سورية، والفعل سوف يزداد تأثيره في الأدوات الحليفة لذلك الوجود، وقد يكون من المؤكد، والحال هذه، أن مناخا كهذا سوف يؤدي إلى رفع معنويات العشائر العربية في تلك المنطقة، ويجعلها في موقع القدرة على مواجهة الاحتلال الأميركي وأدواته خصوصاً في محافظتي الرقة ودير الزور، وهذا بالتأكيد يمثل نقطة تلاقٍ سورية تركية كبرى، فأنقرة، كما يبدو، لا تزال تظن، أو تتخوف، من أن دمشق كانت تضع في خياراتها البعيدة إمكان الذهاب إلى القبول بـ«حكم ذاتي» في الجزيرة السورية، الأمر الذي ترى فيه الأولى، أي أنقرة، ليس مهدداً لأمنها القومي فحسب، بل مقدمة لاستنساخ النموذج في الجنوب التركي ما يعني «قراراً بإعدام الدولة التركية» وفقا لتوصيف مصطفى كمال أتاتورك عندما قرأ بنود معاهدة «سيفر» 1920 التي أشارت بنودها إلى اقتطاع أجزاء من تركيا لإقامة دولة للأكراد فيها.

في ملف إدلب الذي يبدو شديد التعقيد، أبدت أنقرة حتى الآن نجاحاً في ضبط إيقاع المعارضة السورية على نوتتها، وهو الأمر الذي يمكن تلمسه في التصريحات التي وردت على ألسنة أقطابها في أعقاب اجتماع هؤلاء بوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم 3 كانون الثاني الجاري بأنقرة، على حين لا تزال المواقف التي تبناها زعيم «هيئة تحرير الشام» واجهة «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني واختصرها بتصريحات مصورة جاءت بعنوان «لن نصالح» كان قد نشرها موقع «الأمجاد» التابع للهيئة قبل نحو أسبوعين، عقبة هي الأبرز، وإن كان ثمة ملامح تشي بسعي تركي لإحداث تغير في المشهد الذي رسمته تلك المواقف، الأمر الذي يمكن تلمسه في ظهور زعيم «أجناد القوقاز» عبد الحكيم الشيشاني، العاملة في ريفي إدلب واللاذقية، مؤخراً بأوكرانيا يوم 7 كانون الثاني الجاري بمقطع «ترحيبي» نشره الحساب الرسمي للاستخبارات الأوكرانية، ما يشير إلى محاولة أن يصبح هذا الأخير بؤرة استقطاب «جهادية» بكل ما يعنيه الفعل من انتقال ذلك الفعل من الشمال السوري إلى نظيره الأوكراني، وبعيداً عن هذا وذاك، يمكن الجزم بأن المزاج الشعبي العام السائد في مناطق سيطرة «الهيئة» يميل نحو تأييد «الحل الجزئي» وإن كانت الأغلبية عاجزة عن الإفصاح عن ميلها ذاك، لكن تقدم الحل، وتحقيقه لنتائج ملموسة سوف يراكم الكثير على ضفاف ذلك الميل.

ثمة أمر مهم من بين تلك التداعيات المحتملة وهو يتلخص بإمكان عودة «الائتلاف السوري» إلى واجهة المشهد من جديد ليصبح ممثلاً وحيداً للمعارضة السورية التي ستلعب الدور الرئيس، جنباً إلى جنب مع الحكومة السورية، في عملية إنضاج «الحل الجزئي»، وذاك فعل سيرمي بحمولات على التركيبة السورية التي دفعت أثماناً باهظة في مواجهة مشاريع ذلك «الائتلاف»، وربما كان الحل الأنجع هنا هو فتح القنوات مع معارضة الداخل التي رفضت الاستقواء بالخارج، ثم رفضت العسكرة والعنف، بغرض الموازنة بين ثقلي الاثنين لعل الفعل ينجح في تخفيف تلك الحمولات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن