لم يعد التضخم مجرد ظاهرة اقتصادية خطرة، وإنما أصبح أداة سياسية تؤثر في الاستقرار السياسي للحكومات من خلال تأجيجها للاضطرابات بصورة احتجاجات شعبية وإضرابات، وأكثر من ذلك قد تستخدمه دول لحماية مصالحها ضد دول أخرى، وهذه الحالة الأخيرة يمثلها «قانون خفض التضخم الأميركي» الذي عمل الرئيس الأميركي جو بايدن على استخدامه بعدوانية شديدة ضد الصناعة الأوروبية.
لقد أثرت الحرب الأوكرانية في مجمل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والغذائية في العالم، وعام 2022 عانت اقتصادات العالم من معدلات تضخم لم تمر بها منذ عقود، وخاصة الدول المتقدمة؛ ومنها: أميركا والاتحاد الأوروبي، حيث اقتربت معدلات التضخم من 10 بالمئة والمشكلة ستصبح عالمية.
إن خوض عديد من الدول الآن «حروباً» مختلفة، بعضها حقيقي وبعضها مجازي، من شأنه رفع مستويات التضخم في المستقبل، وفي أواخر العام الماضي اتهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بايدن، باتباع سياسات صناعية شديدة العدوانية، ويقصد قانون خفض التضخم، وهي مبادرة قام بها بايدن لإزالة الكربون من الاقتصاد الأميركي، من خلال دعم الاستثمار المحلي في التقنيات المتجددة: السيارات الكهربائية والبطاريات.
ويتطلب التأهل لهذه الإعانات حصول الشركات على مدخلات مهمة من المنتجين المقيمين في الولايات المتحدة، الأمر الذي يثير غضب ماكرون والقادة الأوروبيين الذين يرون أن هذا التشريع يقوض الصناعة الأوروبية، وقال ماكرون موجهاً كلامه لبايدن بصراحة: إن «ما سينتج عن قانون خفض التضخم هو أنك ربما ستصلح مشكلتك، لكنك ستفاقم مشكلتي».
بلغ التضخم في الولايات المتحدة خلال الـ18 شهراً الأخيرة أعلى مستوياته كما أن معاناة المواطن الأميركي حيال ارتفاع الأسعار، جعل التضخم المشكلة الاقتصادية الأولى في الولايات المتحدة، فقد ارتفع التضخم السنوي في أيلول بنسبة 8.2 بالمئة على الرغم من الزيادة الملحوظة في أسعار الفائدة، وهذه الزيادة التي تشكل إحدى وسائل مكافحة التضخم، باتت تنذر بتأجيج أزمة الديون، ويحذر اقتصاديون من أن كبح التضخم المرتفع باستمرار في الولايات المتحدة سيكون صعباً بعد أن تأصل في الاقتصاد.
يقول رئيس البنك الاحتياطي الأميركي جيروم باول: إن التنبؤات بارتفاع التضخم في غضون ثلاثة إلى خمسة أعوام تشير إلى أن التوقعات أصبحت غير ثابتة وستكون هناك حاجة إلى زيادة أسعار الفائدة لمحاربة آفة التضخم.
في أوروبا بلغت نسب التضخم 10.1 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة جداً تنذر بالأسوء، إذ بلغت في شهر أيلول الفائت 9.9 بالمئة في المملكة المتحدة، وفي إسبانيا بلغت النسبة 8.9 بالمئة، و10 بالمئة في ألمانيا، 8.9 بالمئة في إيطاليا، فيما تراوحت بين 22 بالمئة و24 بالمئة في دول البلطيق.
يرجّح أن يؤدي ارتفاع معدلات التضخم في منطقة اليورو، إلى مناخٍ عام من عدم الثقة بفاعلية الإجراءات الحكومية، ما يتحوّل إلى خطر داهم كآفة سياسية، فيما لو زاد تفاعله، وخصوصاً عندما ترتفع خطابات القطاعات العمالية والنقابات، ثم التيارات اليمينية المتصاعدة القوة في السويد وألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ويبزغ خطر انفلات الأمور من عقالها بالنسبة إلى قادة الحكومات الأوروبية، وتهديد وحدة الاتحاد الأوروبي السياسية بالنسبة إلى الأفراد والأسر، فإن شعورهم بوطأة التضخم قد يسبب إضرابات واضطرابات سياسية في العالم، وهذا ما يقود إلى الاستنتاج بأن أسباب أزمات اليوم تكمن في النموذج الاقتصادي الرأسمالي الذي يوصف بالرأسمالية المتوحشة وبأنها ولّادة أزمات.
حذر رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس من أن الاقتصاد العالمي قد يدخل مستنقع الركود التضخمي، في مقابل ذلك، ولمعالجة نسب التضخم المرتفعة نفسها، ترفع المصارف المركزية أسعار الفائدة، وكنتيجة عكسية، يؤدي ذلك إلى مزيد من خنق الاقتصادات.
وإذا استمرت زيادة نسب التضخم شهوراً عدة مقبلة، ومع الإجراءات الروسية المضادة والمتوقَّعة، فنحن إزاء معدلات للتضخم قد تزيد على 15 بالمئة وخاصة في دول الاتحاد الأوروبي، بالمقابل يمر العالم بنوع من «الكساد الجيوسياسي» الذي يتصدره التنافس المتصاعد بين الغرب والقوى المتحالفة مثل الصين وروسيا وإيران، والحروب الباردة والساخنة آخذة في التصاعد، ولا يزال بإمكان الحرب الأوكرانية أن تتوسع لتشمل حلف شمال الأطلسي.
لقد سببت آفة التضخم آثاراً على الأوضاع السياسية في أميركا، وذلك رغم الإجراءات الحكومية لتخفيف آثار موجة التضخم، فعاقب المواطن الأميركي حكومة الديمقراطيين بقيادة بايدن، بفقدان الأغلبية في مجلس النواب، وفي بريطانيا سقط رئيس الوزراء وكذلك في إيطاليا، وأي هزة أو تغيّر يتعلق بتصعيد في الحرب الروسية على أوكرانيا، أو إخلال باتفاقية إسطنبول لتصدير النفط والغذاء من روسيا وأوكرانيا، ستؤجج موجة تضخم وهو ما يعني أن احتمالات ارتفاع معدلات التضخم بانعكاساته السياسية والاقتصادية في العامين المقبلين 2023 و2024، مرتبطة بأجواء سياسية بشكل كبير ما يشير إلى أن التضخم أصبح بمنزلة آفة سياسية عالمية!