من دفتر الوطن

مت زاحفاً

| حسن م. يوسف

متقاعد… مت قاعداً

لست أدري من الذي شطر كلمة متقاعد إلى قسمين وحول دلالتها من الإحالة على المعاش التقاعدي إلى الموت قاعداً! صحيح أن هذه العبارة فيها من المرارة الشيء الكثير، إلا أن واقع الحال تجاوزها إلى ما هو أكثر مرارة وفظاعة، فالراتب التقاعدي انخفضت قيمته الشرائية نحو ألف ضعف، وأنا أعرف أكثر من متقاعد خفضوا جرعة أدوية السكري والضغط والكولسترول إلى النصف لأن رواتبهم التقاعدية لا تكاد تكفي لشراء كل ما يحتاجونه من الأدوية.

قبل أن أحال على التقاعد كان لي حساب لدى الفرع السوري من أحد المصارف اللبنانية، الهدف الأساسي منه تسديد فاتورة هاتفي المحمول، وقد كان الحساب ولا يزال يشكو الهزال وفقر الدم، إذ كنت بين وقت وآخر أتلقى إشعارات من إدارة المصرف تطلب مني فيها تغذية الحساب، لأن رصيدي فيه لا يكفي لدفع فاتورة الهاتف، ولكي أريح رأسي من هذا الموضوع، طلبت تحويل الراتب التقاعدي الذي أتقاضاه من مؤسسة التأمينات الاجتماعية إلى ذلك المصرف. الطريف في الأمر هو أن المصرف مارس ديمقراطية المال مؤخراً إذ قام ببيع أصوله وزبائنه، وأنا منهم، لجهة أخرى من دون إشعاري بالأمر كما تقتضي اللباقة وأصول التعامل!

خلال الشهر الماضي تبين لي أن راتبي التقاعدي قد تم إيقافه لأنني لم أحضر شخصياً إلى دائرة المتقاعدين في التأمينات بدمشق ومعي بيان عائلي يثبت أنني لم أمت بعد!

عندما وصلت إلى مبنى التأمينات كان الزحام على أشده والمصاعد متوقفة. رأيته عند أسفل الدرج الصاعد إلى ملكوت دائرة المتقاعدين في الطابق الثالث، كان رجلاً بديناً، مربوع القامة، في السبعين من عمره يرتدي طقماً نظيفاً مجروداً يلمع من كثرة الكوي، له حدبة ملحوظة وفي يده عكاز. استوقفتني نظرته المذعورة إلى الدرج الذي يغلي بالصاعدين والنازلين. ولم يحتج الأمر مني لكثير من الوقت كي أدرك سبب ذعر الرجل، لأنه يكفي أن يقوم أحد الهابطين أو الصاعدين بدفعه ولو قليلاً كي يسقط متدحرجاً على الدرج.

سلمت عليه كما لو أنني أعرفه وسألته عما إذا كانوا قد أوقفوا راتبه هو أيضاً، فأغمض عينيه بألم وأطلق تنهيدة تشرح كل شيء. طلبت منه أن يمشي خلفي وباشرنا صعود الدرج ببطء شديد.

قال لي ونحن نصعد: لماذا لا يحترمون شيخوختنا! لماذا يضعون دائرة المتقاعدين في الطابق الثالث بدلاً من أن يضعوها في الطابق الأرضي! كما لو أنهم يقولون لي مت زاحفاً، لا مت قاعداً.

سؤال الرجل ظل يرن في بالي: لماذا لا يحترمون شيخوختنا! ولماذا يوقفون رواتبنا أصلاً! هم يتحججون بحرصهم على المال العام! لو كان الأمر كذلك لأمكنهم التأكد بعشرات الطرق من أن المتقاعد لا يزال حياً! يمكن لهم أن يتصلوا بالسجل المدني، وإذا كانوا لا يثقون به، يمكنهم تكليف موظف من طرفهم بهذه المهمة، ولا أظن التأمينات الاجتماعية تشكو من قلة الموظفين!

لقد أخذت التأمينات الاجتماعية منا ليراتنا على مدى عشرات السنين لتعيدها إلينا وقد سخطها التضخم لتصبح أصغر بحوالي ألف مرة! سيقولون إنها الحرب، نعم نحن ندرك أنها الحرب، لكن ما علاقة الحرب بعدم احترامكم لنا!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن