كم هو لافت اختلاف المفاهيم والمقاربات بين البلدان والشعوب، وكم هي جوهرية ثقافة وتاريخ وحضارة كل شعب؛ تتسلل بين عروق أبنائه، وتغذي نبضات قلوبهم، وأسس تفكيرهم ومفاهيمهم وهي كالنسمة الناعمة في مساء ربيعي دمشقي جميل تُلامس وجهك بلطف وحنان دون أن تراها، فقط لتقول لك إنني هنا، وإن سعادتك هي هدفي ومبتغاي.
انتابتني كل هذه المشاعر الجياشة في الجلسة الأولى للسيدات الأول في مؤتمر النساء المؤثرات حين كنت أستمع للسيدة جميلة سادات علم الهدى عقيلة الرئيس الإيراني، وكنتُ حاضرةً باعتباري ممثلة للسيدة أسماء الأسد، ليس لأن السيدة علم الهدى قد ألقت خطبة عصماء، أو عادت إلى المراجع النادرة، أو اقتبست من أشهر المفكرين والكتاب، بل لأنها، وببساطة شديدة، نسجت عباراتها كما ينسج الإيرانيون سجادهم بدقة وجمال وانسيابية دون ادعاء أو محاولة إظهار الجمال لأن الجمال والحقيقة ليسا بحاجة إلى من يعمل على إظهارهما، بل يشعان مثل الشمس من تلقاء نفسيهما فيَدخُلان العقول والقلوب دون استئذان.
أول ما بدأت به السيدة علم الهدى هو أننا في هذه القاعة ننتمي لثقافات مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون لدينا تبايناتٍ في الرؤى والأفكار والمفاهيم، ولكننا هنا كي نبنيَ على المشتركات بيننا، وكي نتفهم الاختلافات والفروقات، بل ونتعلم من بعضنا بعضاً.
كم بسيط وحقيقي هذا القول، ولكن كم هو مهم وضروري، وربما اكتسب أهمية متزايدة لنا جميعاً اليوم نتيجة محاولات الليبرالية الحديثة، وريثة وشريكة الهيمنة والعنصرية الغربية، أن تعيد تربية الناس من كل الثقافات والأمصار بما يتوافق وأجنداتها الخبيثة، وبما يتناقض مع الطبيعة البشرية والفطرة السليمة لجميع البشر بمختلف انتماءاتهم وبيئاتهم.
لقد عملت الثقافة الغربية، ومنذ الثورة الصناعية، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، على بناء منظومة إعلامية ضخمة هدفها استعمار العقول حيثما اضطرت إلى إنهاء استعمار الأرض، ومازال عالم اليوم يدفع ضريبة باهظة لسيطرة هذه المنظومة، ولم يجد إلى حد اليوم سبيلاً للتحرر الكامل منها، ولذلك فإن أي ثقب يمكن إحداثه في هذا الجدار الأسود المظلم يشعرنا بالانتعاش ويفتح أمامنا نافذة أمل أن الانتصار النهائي ممكن، وأنه ليس علينا سوى أن نكثف الجهود ونسرع الخطا ونشد من أزر التحالفات والتفاهمات والتعاون المخلص لتغيير الوجهة التي فُرضت علينا جميعاً، والتي ندفع أثماناً باهظة لها، ولم نتمكن إلى حد اليوم من إرساء أسس لمفاهيم وثقافة تضع الثقافة الغربية في مكانها الصحيح، ألا وهو الإجحاف بحق البشرية جمعاء، ومحاولة قيادتها في الظلام من أجل ضمان الاستمرار بنهب ثرواتنا واستمرار شكل من أشكال استعمارها وعبوديتها.
وأنا أراقب السيدات المشاركات في هذا المؤتمر من الصين وروسيا وإفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وأُغني بصري بنماذج اللباس مختلفة الألوان والأشكال والمنبع الحضاري، وأقول كم هو جميل هذا الاختلاف، وكم هو مغنٍ للجميع، وأتذكر كما دائماً قول الله عز وجل «ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم» أي إن الذي يعمل للقضاء على الاختلاف وتسطير أنموذج واحد للحياة وإعطائه الختم الرفيع بأنه الأهم والأفضل، يعمل ضد آيات الله ويتنكر لها، لأنه جاحد بها ويسير في عكس التيار السليم والمنطقي والطبيعي، وخاصةً أن هذا الأسلوب الاستعماري الغربي قد أفقد البشرية جزءاً عزيزاً وثميناً من تاريخها وقيمتها وثقافتها لا يمكن لأحد أن يقدر حجم هذا الفقد بعد اندثاره كي يبنيَ الغربيون سطوتهم على أنقاض تلك الحضارات العريقة الموغلة في القِدَم.
حين تم التركيز في المؤتمر على الأسرة والأقارب، وعلى الرحمة والرأفة والمودة، شعرتُ أن هذا هو المطلوب البارحة واليوم وغداً من تحرر المرأة، إذ المطلوب هو التحرر من المفاهيم الغربية المشوهة التي دفعت إلى التنافس والتشبه بالآخر بدلاً من البحث عن العدالة الحقيقية وتكافؤ الفرص، وأن تنشر المرأة ما حباها الله من خصال الحب والرحمة والحرص على الآخرين بدءاً من أسرتها. بهذا يتم التعبير عن الدور الحقيقي الذي تقوم به المرأة منذ الأزل، وفي كل أصقاع الأرض، ولذلك تركت لنا الحضارات منحوتات المرأة الآلهة والكاهنة والسلطانة والملكة والشاعرة والأديبة، المرأة القادرة تبني أسرة قادرة، والأسرة القادرة تنتج مجتمعاً قادراً وثقافةً وتاريخاً عظيمَين، وأهمية هذا المفهوم يكمن في العودة إلى الطبيعة البشرية الفطرية، ونفض غُبار ما حاول الغرب تعميمه وغرسه في ثنايا ثقافات الشعوب على مدى العقود الماضية.
لا شك أن هذه ليست المحاولة الأولى، وربما ليست المحاولة الأهم، ولكنها محاولة محمودة تعتمد نتائجها على حجم الجهود المخلصة التي ستتضافر مستقبلاً لإنجاحها وعلى عمق الوعي بالتحدي الذي هم بصدد مواجهته، وعلى الحنكة والحرفة في اجتراح آليات العمل التي تؤسس لعمل مستدام واعٍ ومثمر ومركز باتجاه الهدف النبيل المُرتجى تحقيقه ألا وهو إنقاذ الأسرة والمجتمع، ونشر قيم الوئام والمحبة والسلام بدلاً من القيم المادية المستدامة التي تكاد تعصف بالبشر على هذا الكوكب كريح صرصر عاتية.
بعد انتهاء المؤتمر سألني أحد الإعلاميين في مقابلة: كيف تعرفون النساء المؤثرات، وما المعايير التي وضعتموها لتصنيف تلك النساء؟ أجبتُ: إن النساء المؤثرات ينتمينَ إلى جميع المجالات، ولكن المعيار المشترك بينهن هو أنهن أصبحنَ قُدوة في مجالاتهن سواء من ناحية الإخلاص في العمل وتبني القضية التي هن بصددها وممارسة المواطنة النبيلة، أم من ناحية الحرص والعطاء وعدم التوقف أبداً عند الصغائر، وضرب المثل بالترفع والكبر اللامحدود؛ فنحن نتحدث عن نساء قادة في مجالاتهن ولكن بكثير من التواضع والتماهي مع الهدف النبيل الذي يعملن من أجله ونذرنَ أنفسهن من أجل تحقيقه، وبذلك أصبحن لبنات صالحة ومؤثرة في مجتمعاتهن ودولهن.