من الطبيعي أن يضع الكيان الإسرائيلي على جدول عمله تهجير أكبر عدد من اليهود وبخاصة الشبان منهم إلى فلسطين المحتلة بعد أن تبين وجود نقص في القوة البشرية لقوات الاحتلال في مواجهة سبعة ملايين فلسطيني في كل أراضي فلسطين وفي مواجهة جبهة الشمال، واعتاد قادة الكيان الإسرائيلي على تحقيق هذه الغاية في تهجير اليهود بواسطة شن حملات إعلامية تتهم الأوروبيين والأميركيين بمعاداة اليهود وبهذه المزاعم تحذر الحركة الصهيونية اليهود «بوجود خطر على حياتهم وأملاكهم ومستقبلهم» وتزعم أن وجودهم في الكيان فقط هو الذي يضمن حياتهم وأمنهم علماً أن يهود أوروبا وأميركا كما يعرف الجميع وبالأرقام هم متنفذون حتى في فرض مواقف إسرائيل على سياسات دول أوروبا وأميركا وفي فرض مصالحهم داخل أوروبا وأميركا.
فوجود ما يزيد على تسعة ملايين يهودي في العالم مقابل ستة ملايين ونصف مليون في فلسطين المحتلة، وفشل تهجير أكبر عدد منهم، يدل على أهم إخفاق للمشروع الصهيوني. ومنذ أكثر من عشرين سنة كان عدد من الوزراء ومنهم بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الآن، قد تبجحوا وأعلنوا في التسعينيات بأنهم سيدفعون بملايين اليهود للهجرة خلال سنوات، ولم ينجحوا أبداً برغم كل حملات اتهام العالم بمعاداة السامية، فوضع اليهودي في أوروبا وأميركا لا يجعله يفضل المجيء إلى مستوطنات ومدن تحيط بها الحراسات وتهددها المقاومة ومشاريع الحروب ولعل أهم دليل على ذلك هو انتقال معظم يهود أوكرانيا إلى الدول الأوروبية وليس إلى الكيان الإسرائيلي بعد أن تحولت أوكرانيا إلى ساحة حرب فهل ينتقل منها لساحة حرب أخرى لا يتحدث بلغتها ولا يعرف تضاريسها؟ وهو الذي يعلم أن إسرائيليين من أصل أوروبي في الكيان نفذوا هجرة عكسية إلى بلدانهم التي جيء بآبائهم أو أجدادهم منها وفضل آخرون الهجرة إلى أميركا وأصبح عددهم 800 ألف خلال ثلاثين سنة بموجب الموقع الإلكتروني للكنيست – البرلمان الإسرائيلي.
ولأن الحركة الصهيونية وكيانها الإسرائيلي يدركان هذه الحقيقة، فسوف يلجأان إلى الزعم بتزايد معاداة السامية، أي معاداة اليهود في دول أوروبا وأميركا! لدفع اليهود للهجرة، وفي التقرير السنوي للعام 2022-2023 الذي أعده ما يسمى «المعهد السياسي للشعب اليهودي – JPPI» حول تقدير الوضع وأهم مواضيع جدول العمل للحركة الصهيونية والمنظمة العالمية لليهود جاء في المقدمة التي كتبها الرئيس المشارك في رئاسة هذا المعهد والذي كان مبعوثاً أميركياً في عهد الرئيس بيل كلينتون للشرق دينيس روس أن «التحديات الجديدة التي نواجهها ما زالت تتضمن المواضيع القديمة نفسها وهي تزايد معاداة السامية في بعض دول العالم»، ويقصد من عبارة «البعض» بالدول التي يوجد فيها يهود لتهجيرهم وهي أميركا، حيث يوجد أكثر من سبعة ملايين، وفرنسا وألمانيا وبريطانيا حيث يوجد بقية اليهود، وهي جميعاً دول استعمارية أنشأت الكيان وتقدم الدعم المستمر له من شعوبها وحكوماتها ومن هذه الدول يريد الكيان استحضار المهاجرين بعد أن يروج مزاعم بوجود أخطار يتعرض اليهود لها داخل هذه الدول، فبقاء اليهود في أوطانهم هذه ينسف شعار الصهيونية القائل: «إن اليهودي الآمن هو الذي يستوطن في إسرائيل وليس الذي يستمر بالبقاء خارجها».
يبدو أن معظم يهود العالم سيسخرون من هذا الشعار حين يقارنون بين وضعهم في أميركا ودول أوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ووضع اليهود المستوطنين في الأراضي المحتلة سواء في مستوطنات غلاف قطاع غزة أم المستوطنات القريبة من جنوب لبنان وحدود الجولان المحتل وصولاً إلى الضفة الغربية بكل أشكال مقاومتهم، ويقول دينيس روس: إن «كل التيارات السياسية في أوروبا تزيد من تعريض حياة ومستقبل الشباب اليهود في أوروبا إلى أخطار لا تسر»! وفي بقية مقدمته يلاحظ القارئ أنه يركز على الشباب اليهود ويحذر من انصهارهم في المجتمعات الأوروبية وعدم الاهتمام بتراث التربية اليهودية الصهيونية وكأنه أصبح يقول لهم: «لا حياة لكم إلا في إسرائيل فقط»، ولا أحد يستبعد أن يدفع هذا الشعار المخابرات الإسرائيلية إلى فبركة معاداة لليهود تخدم فكرة أن أمن اليهود في الكيان وليس في البقاء في أوروبا وأميركا طالما أن هجرة اليهود توقفت تقريباً، فقد ظهر بالمقارنة أن عدد من غادر الكيان إلى أوروبا وأميركا من الإسرائيليين بلا عودة خلال 25 عاماً زاد كثيراً جداً على عدد من جاء «مهاجراً» وهذا ما يحذر منه تقدير الوضع الذي أعده ما يسمى «المعهد السياسي للشعب اليهودي» الذي يرأسه دينيس روس.