انقطعت المياهُ عن البيت لسببٍ أجهلُه، وما أدراكُم كيف يكون البيتُ بلا ماءٍ!
صراخ وصخبٌ من هنا، وجلَبة وصداح من هناك، فارتبكتُ كثيراً وأصابتني الحَيرةُ، وخمّنتُ أن شيئاً ما قد تعطّلَ في السّقيفةِ حيث خزّانُ الماء وتأكدت من ذلك بعد سؤالي الجيرانَ إن كانتِ المياهُ مقطوعةً عنهم، فأجابوا بالنّفي.
مرَّت ساعتان على هذه الحال، استنفدَت منّي كلَّ مالديَّ من هدوءٍ وضبطٍ للأعصاب نظراً لعدم ردّ معلّمِ الصّحّيّة المسجّلِ رقمُ هواتفِه في جوّالي، إلى أن تذكّرت أخيراً حديثَ صديقٍ لي، عانى مؤخراً من مشكلةٍ مماثلة، فاتّصلتُ به، فزوّدني برقم هاتف السبّاك الذي يتعاملُ معه، ونصحَني باللجوء إلى خدماته، خاصةً وأنّ أداءَه كان جيداً جدّاً.
لم يتأخّرْ معلّمُ الصّحيةِ أبداً، بل جاءني خلال زمنٍ قياسيٍّ. فتحت له البابَ وإذ به رجلٌ خمسينيُّ العمر، أسمرُ اللون، قصيرُ القامة، أشعثُ أغبرُ يخالِطُ شعرَه الأسود شيبٌ أبيضُ، مفتولُ العضلاتِ، يرتدي بنطالاً من قماش الجينز ملطّخاً بالطينِ وبعضِ بقعِ الزّيت، ويحملُ بيده مفتاحاً إنكليزيّاً فقط، من دون صندوقِ عدّة، ممّا أثار استغرابي.
بكلّ الأحوال رحّبتُ به، وشكرته على مجيئه بهذه السّرعةِ، لكنّه لم يبادلني التّرحيبَ، ولم يقل سوى عبارةٍ واحدة، وبصوت خشنٍ أجشٍّ: «وين الخزّان»؟؟
قلتُ له وقد أربكني جفاؤه بترحيبي له: فوق في السقيفة.
وعلى الفور استلّ السلّمَ الخشبيّ المستندَ إلى حائطِ السّقيفة، ثمّ صعد إليها ملطّخاً إيّاه بطين بنطالِه المتّسخ، دون أن يعيرَ لذلك اهتماماً، أو يتأسّفَ لفعلته.
وقفتُ قربَ السلّمِ أنتظر منه التعليماتِ، لكنّه اختفى في السّقيفة نحو خمسِ دقائقَ، لم أسمع خلالها سوى طرقِ الحديد بالحديدِ، ثمّ نزلَ وهو يحمحمُ كحصانٍ يصهلُ، وقد ابتلّت ثيابُه بالماء، وكذلك شعرُه ووجهُه، فعاد يمسحُ الجدار بثيابِه أثناء نزولِه بقعَ الطين التي سبق وأن اتّسخَ بها أثناء صعودِه، ليظهرَ الجدارُ وكأنّه لوحةٌ تجريديّة.
قال لي: خالص
قلت له: ماذا هو الخالص؟
قال لي: المشكلة في «الطرنبة»
قلتُ له: ما بها «الطرنبة»؟
قال لي وهو يكزُّ على أسنانِه التي بدت منسّقةً وكأنها طقمٌ اصطناعيّ: «عاضّة»..
قلتُ باستغراب: ماذا؟
قال: أي نعم «عاضّة»
قلتُ: وماذا يعني «عاضّة»؟
ابتسم وقال: يعني «مكربْجة»
قلت له: هاها!! وكأنّي فهمت ماذا يعني «مكربجة»!
عدتُ فسألتُه: يعني خلصت المشكلة؟
قال: طبعاً والأمور على ما يُرام
قلت له وأنا أُمعنُ النّظرَ في الجدار المتّسخِ، وأفكّر ماذا أفعل به قبلَ أن تراه زوجتي: شكراً جزيلاً.. وكم حسابُك؟
تأمّلَ قليلاً في مفتاحِه الإنكليزيّ، ثم نظرَ إلى السّقف عالياً وهو يتمتم، ثم حكَّ رأسَه وقال: «خلّيها علينا»
قلت: معاذ اللـه هذا تعبُك
قال: «بس خمسين ألف»
أذهلَني الرّقمُ الذي طلبَه، والذي لم أتوقّعْه، فقلت له مدهوشاً: «بس خمسين»؟؟.. لقد وصلتَ إلى البيت الساعةَ العاشرة والرّبع، وها نحن عند الساعةِ العاشرةِ وخمسٍ وعشرين دقيقةً، أي إنها عشرُ دقائقِ عملٍ فقط! وتطلب خمسين ألف؟؟ أليس ما تطلبُه كثيراً؟؟ هل تعلمُ أن راتب موظّفٍ يحملُ إجازةً جامعيّةً لا يزيد على مئتَي ألفِ ليرةٍ في الشّهر!! ما يعادل أربع عضاتٍ «للطرنبة».
قال بعد أن همهَمَ قليلاً: «أبو شو حضرتك»؟
قلت له: أبو محجوب
قال: «والنّعم منك يا أبو محجوب..
شو رأيك تخلّيك بمصلحتك،
وتخلّيني بمصلحتي؟
الله يرضى عليك، التكسي لعندك بعشرين ألف، والتكسي من عندك بعشرين ألف،
ولأيدي أخدت «عشر تالاف».
كأنك مستكترتهم عليّ؟؟
بس تاني مرة إذا شايف هالشغلة سهلة ساويها لحالك سيدنا!!
ولا تبعت وراي».
أطرقتُ رأسي خجلاً، ثم بدأت بعدِّ النقود، على حين كان معلّمُ الصحيةِ يتّصلُ بالهاتف ويقول لمن يكلّمه: «لا تواخذني على التأخير، عشر دقائق وبكون عندك حبيبنا، بس أوعى تفتح حنفية المي السخنة!!».
أعطيتُه النقودَ بابتسامة مصطنعةٍ فقال: «معوضين انشالله».
ودّعتُه قائلاً: ليتني تعلّمتُ منك ما عليَّ فعلُه إذا عادت «الطرنبة» تعضّ مرّة ثانية!!
رفع مفتاحَه الإنكليزيّ وقال: «ما فيك تفك العضّة إلا بهاد، وهو يشيرُ بإصبعِه إلى دماغه».