ثقافة وفن

الفلسفة العربية هل كانت؟ وبأي مفهوم؟ … الفلسفة والمعرفة والمنطق .. وجه من وجوه البحث عن تفسير ظواهر الحياة

| إسماعيل مروة

اجتمع عدد من المثقفين المنتمين إلى حضارات متعددة شرقية، واحد منهم كان عربياً، وهو من روى لي ما جرى، فأرادوا أمراً ما وهو الإعلاء من شأن الدين، وهو لا يحتاج أصلاً ذلك، والغمز من العروبة، ظناً منهم أن هذا العربي سيركن إلى ما أرادوه من غمز، فقال قائلهم: إن العرب لا يعرفون الفلسفة، وليس فيهم أي فيلسوف، فما كان من العربي السامع إلا أن قال بفطرته وحنكته: نعم ليس من العرب من فيلسوف بعد «نهج البلاغة»، وكلهم على مائدته، فساد الصمت، وانتهى المجلس بجواب مسكت كان من العربي الذي يعتدّ بعروبته، وحار الآخرون الجواب فلاذوا بالصمت!

الفلسفة والانتماء

إن هذه الحادثة التي رواها لي صديق عربي يعتز بعروبته، ويعرف جواهرها وخفايا دفعتني للبحث طويلاً في قضية الفلسفة والعرب والدين، وهل حقاً تفتقد العربية إلى الفلاسفة؟ وما ميادين الفلسفة؟ وكيف يتم تقويم الفلسفة؟ وما قيمة الفيلسوف؟ وكيف تقدر فلسفته بأصله أم بآليات تفكيره؟ اليوم نجد دارسين للفلسفة من العرب يفكرون بالمادية وغيرها، فهم يستخدمون آليات تفكير ليست منطلقة من آليات التفكير العربي، فيردون إلى الفكر الذي ينهجونه وليس إلى الأصل الذي ينتمون إليه.. وجلّ الفلاسفة الذين مروا بالحضارة العربية والإسلامية، مهما كانت نشأتهم رومية أو فارسية أو قبطية أو أمازيغية أو ما شئت من النشأة، كتبوا بالعربية، وتشربوا الدين والعقيدة، فهم انتماء وفكراً وتعبيراً ينتمون إلى الحضارة العربية والإسلامية ولا يصحّ أن تقول بانتمائه الأول، فسيبويه وإن كان مولى وغير عربي في أرومته هو واضع فلسفة اللغة، والذي اعترف له العرب بالفضل، ولم يروا بعد كتابه (الكتاب) أي كتاب في نظرية النحو واللغة يدانيه أو يصل إلى مرتبته ماذا نعده؟ إنه فيلسوف عربي خالص، أعطى العربية ذوب فكره وعلمه وترك أفضالاً على العربية عجز أبناؤها عن سبقه إليها، ومادته العلمية هي التي تحدد هويته وقيمته وبراعته، ومن الجهل بمكان أن يأتي صاحب أفق ضيق لينال من سيبويه وأصله الأعجمي لمجرد ملاحظة هنا أو هناك، أو وجود نقص أو نسيان، وهذا الأمر ينطبق على جميع العلماء في اللغة والأدب والشعر والتفسير، كما لا يحق لصاحب فكر ضيق أن يأتي لينعى على العربية أن واضع نحوها ومنطقه غير عربي، وأن يحاول استرداد نسبة سيبويه إلى أصوله، لأن العالم الجليل اختار العربية وتتلمذ على شيوخها ومنهم أبو عمرو بن العلاء ليكون في هذه المكانة، و فضل العربية عليه أنها أعطته مكانة عجزت قوميته عن إعطائه إياها، ويمكن أن نردّ ذلك على المنهج المعروف بأن خدمة كتاب الله الكريم القرآن العظيم هي التي جعلته في هذه المكانة، فمنها جاء وإليها ينتمي ولا شيء غير ذلك.. فلا يضيره إن كان غير عربي، وفضله في العربية لا يمكن أن يؤخذ إلى قومية أخرى.

الفلسفة والعلم والدين

مع أن الإسلام جاء وشعاره (لا إكراه في الدين) و(ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) إلا أن اختلاط العرب بالأقوام الأخرى، الذي نتج عنه الفرق والأحزاب والمذاهب المتعددة ضيق المسألة، ووضع حدوداً للفكر الإنساني، وبدأت مرحلة التكفير للمخالف في مرحلة مبكرة من تاريخ الإسلام السياسي، وليس الإسلام الفكري العقيدي والديني، وباتت عملية المحاسبة الفكرية على المخالفة واردة، وصار الإنسان يقتل لتهمة الزندقة، وما هو بزنديق، وإنما هو مخالف في الرأي والسياسة! فكم من إنسان مبدع قتل ولاحقته لعنات المؤرخين لأنه اتهم بالزندقة، وما بعد الزندقة من ذنب في رأي العامة والساسة والمؤرخين! فالفكر الديني مهما كانت النظرة إليه، أسهم إسهاماً كبيراً في تنظيم الحياة الفكرية إيجاباً برأي الأغلبية المطلقة، وسلباً برأي بعض النخب، وبعض هذه النخب فيها من الصلاح والتقى ما فيها، إذ يذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية قصة الحلاج الشاعر الصوفي وما تعرض له، وبعلميته المعروفة عنه يسجل ابن كثير شهادات العلماء في الحلاج، فهو مؤمن وصوفي وإيمانه صحيح برأي العلماء الثقة، وقتل الحلاج شرّ قتلة بسبب شعره، وادعاء كثيرين بأنه ادعى الربوبية، وقد نفى ذلك عن نفسه بنصّ كلامه عندما تمت مواجهته ومساءلته، ونفى عنه تلك التهمة التي لا تليق بمبدع ومؤمن الكثير من محبيه ومعاصريه والعلماء، هذه التهمة التي سيقت للقضاء على الحلاج، ويذكر ابن كثير الحكاية إذ يربط الراوي بينه وبين ابن المقفع، لكن ابن كثير يناقش الرواية والزمن الذي يفصل بين الرجلين ليؤكد أن الرواية ملفقة وموضوعة!

ومع ذلك سار بين الناس أن الحلاج كان على ما كان عليه، ولم يحظ حتى في الكتب على محاكمة عادلة.. إذ كان المقياس الذي اعتمدته الروايات هو الدين، وكل ما يرونه هم من موقعهم مخالفاً كانت الزندقة حكماً، ولو اجتمع علماء كثيرون على تبرئته والإشادة به.. وكذلك الأمر كان مع ابن جرير الطبري المؤرخ الثقة والمفسّر، والعالم بالحديث والقرآن، وهو من أجلّ من مرّ على العربية في التصنيف، إذ يذكره ابن كثير بكثير من الإجلال والتوقير، لكن يذكر كذلك موقف الحنابلة منه لأنه لم يقل برأيهم!!

هذه أمور لا تتعلق بالفلسفة، وإنما تتعلق بالفكر والتأليف والتأريخ والأدب، فما بالنا عندما يتعلق الأمر بالفلسفة؟! لذلك كان (تهافت الفلاسفة) و(تهافت التهافت) والموقف من ابن عربي وابن رشد وغيرهما من الذين عرفوا بالفلسفة، إذ كانت الفلسفة التأملية والبحثية عند العرب والمسلمين قراءات لخدمة النص الديني والوجود الإنساني وفق الناموس الذي حدده الإسلام والمفسرون والمحدثون، فتحول بذلك القول في الفلسفة إلى رجال الدين وعلماء التفسير والحديث، الذين انتقلوا من مواقعهم إلى موقع الفلسفة ليكونوا شموليين في المعرفة والعلم!

تصنيف الفلسفة العربية

بعد قراءات كثيرة ومناقشات مع عدد من المفكرين والفلاسفة في البحث وليس الصفة تم تصنيف الفلسفة الإسلامية بكثير من الحدّية فهذه فلسفة إسلامية، وتلك فلسفة غير إسلامية، ووصل الأمر إلى الحكم جملة على العلماء وفلسفاتهم من بينهم الغزالي وابن رشد وابن عربي، فوصف كل واحد منهم بأجلّ الأوصاف من أحبابه، وأقسى الأوصاف من معارضيه، وقد تتسم بعض هذه الآراء بعدم المعرفة والتعمق والقراءة، فمن لم يقرأ الغزالي عدّه فيلسوفاً دينياً وحسب، وكذلك عدوا ابن رشد خارجاً عن هذا الخط، وكلاهما حكم غير صحيح، فمن حق أي فيلسوف أن يحدد منطلقاته، والغزالي في أساسياته كان منطلقاً من الرؤية الدينية لذلك كانت فلسفته قائمة على محاولات التفسير الوجودي وفق النص الديني، وهذا لا يسوّغ لخصومه أن ينفوا عنه صفة الفلسفة، وهم أنفسهم يناقشون الفلسفة الأوروبية القديمة والحديثة، ويسبغون صفة الفلسفة على الفلاسفة الغربيين، مع أنهم من راسل إلى كانط وسواهم كانت آراؤهم ونصوصهم قائمة على النص الديني والعلاقة مع الكنيسة كانت تحكم أغلب النصوص الفلسفية لهم، وليس الأمر محصوراً بالفيلسوف وحياته كما عند العرب، فعند الفلاسفة لا شيء، ينطلق من العدمية، ومناقشاتهم تقوم على الحياة والآراء والنص المقدس ضمناً لتفسير الكثير من القضايا الوجودية والمصير والمآل. وهل بالإمكان إغفال النص الديني؟

ارتباط الفلسفة بالدين

إن أي باحث ينكر على الفلسفة ارتباطها بالدين لا يملك المعرفة الحقة، فالفلسفة هي أهم العلوم ارتباطاً بالدين والعقائد، لأننا إذا عدنا إلى الفلسفة والمنطق والمعرفة في جذورها الأولى عند الإغريق، وربما إلى المرحلة الغيبية مع بدء الخليقة، فإنها بدأت لمناقشة قضايا الوجود والحياة والموت والخلود والتفكر والتدبر، وفي مرحلة كانت في البحث عن أساليب العيش والحياة، ولو وقفنا عند بعض الدارسين الذين يرون أن فكرة الألوهة هي حاجة بشرية، وبأن الفلاسفة اليونان في القرن السابع قبل الميلاد هم من عمل على بلورتها وصياغة المفهوم، لو سلمنا جدلاً بهذه الفكرة والبدايات، فهذا يعني الارتباط الوثيق بين الحياة والمصير والمآل، ولو عدنا إلى مرحلة لاحقة مع أفلاطون وسقراط وأرسطو، وفكرة المجتمع والمدينة الفاضلة، فإننا نلمس دون أدنى عناء التوجه نحو القيم التي تريد الهيمنة على المجتمع والسيطرة على الإنسان، مع كل الادعاء بأنها تريد تحرير الفكر، ولكون الفكر والفلسفة في البدايات تحققت لهم ا لقضايا والبحوث وكانت فضاءات الحرية التي نقرؤها ونلمسها، وحتى في الجانب الأدبي والميثولوجي الأسطوري والملاحم كان الارتباط بالوجود، وإيجاد المسوغات لبعض المفاهيم من تعدد الآلهة إلى مشاركتها في مسرح الأحداث إلى تدخلها في صنع الحدث، وصولاً إلى خلق المفارقات المؤلمة في حياة الناس انطلاقاً من مفهوم جبل الأولمب الذي جعله الإغريق معادلاً لمفهوم السماء والألوهة!

وهذا يعني، حسب رؤيتي، بأن الفلسفة بارتباطها بالوجود والمعرفة والمنطق كانت من أجل الحياة وتثبيت دعائم الاستقراء وتعاقب الأجيال، والتأسيس لنظريات تفلسف الحياة، وتفسرها، وعندما ظهرت الديانات التوحيدية حدث ما يسمى بالنسخ إن جاز التعبير، وتم الانتقال، حسب الإدراك العقلي وتطوره والمنطق، الانتقال إلى مفهوم التوحيد والإله الواحد، وفي النص الديني في الكتب المقدسة الموجودة نجد ذلك الصراع للوصول إلى الإله الواحد سواء كان ذلك من خلال الطبيعة التي انتقلت من الحضارات القديمة، أم من خلال الأوثان التي تناسب بيئة ما، وجميعها كانت رحلة للبحث عن تفسير الوجود ومفهوم الألوهة.

ومع الديانات التوحيدية والكتب المقدسة تغيرت المفهومات، لكن الفلسفة في منطلقاتها وغاياتها بقيت، وهنا لا يجوز بحال من الأحوال أن نفصل الفلسفة عن الدين، والفرق الوحيد أنه في ظل الديانات التوحيدية انتفى الخلاف حول المآل، وتحولت الفلسفة للبحث في الواقع، ومحاولة تفسير العلاقة بين الحال والمآل، لذلك من الطبيعي أن نجد الفلاسفة الذين ينتمون إلى الديانات يقومون بالتفسير والتعليل حسب المآل الذي وجدوا أنفسهم عليه، وهذا لا يختلف عن بحث الإغريق الذين بحثوا في الطرق نفسها.

وربما من هذه النقطة نشأ الاعتقاد بأن الفلاسفة أو دارسيها أقرب إلى التحلل من الدين، لأنه ينظر إليهم حسب المرحلة الأولى من الفلسفة، وفي هذا الإطار وبعد الديانات التوحيدية لن نجد فيلسوفاً يخرج من إطار الفهم الديني أو محاولة تفسيره، بالموافقة أو بالرفض، وربما اتفقت الموافقة والرفض في نتاج الفيلسوف نفسه حسب المرحلة العمرية، ووفق الفهم والمؤثرات وربما المصلحة!

فلاسفة الغرب كان حدهم الفاصل الفهم للنص الديني ومخالفته أو موافقته، وكان الحكم على إيمانهم وإلحادهم من هذا المنطلق، وكذلك الأمر مع الفلاسفة العرب الذين تجلى فهمهم في محاولة تفسير الحياة وظواهرها وفق النص القرآني، باعتبار النص المقدس لديهم مسلماً به وهو الفيصل الذي قيم تفسير أي ظاهرة انطلاقاً منه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن