منذ تسعينيات القرن الفائت، ما برحت الولايات المتحدة الأميركية تعمل جاهدة وفق إستراتيجية محددة لتوسيع إطار حلف شمال الأطلسي، من خلال إحكام الدرع الصاروخية حول روسيا، بغية محاصرتها والنيل من وحدة ترابها الوطني ووضعها بين سندان العسكرة الأطلسية والمطرقة الاقتصادية الأميركية، وخاصة بعد توظيف الساحة الأوكرانية في خدمة تلك الإستراتيجية، بدءاً بالانقلاب الفاشي في أوكرانيا وانشقاق الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن البطريركية الروسية، وجعل أوكرانيا بؤرة توتر داهمة ودائمة تهدد وحدة الأراضي الروسية في محاولة لتفتيتها، ما يشكل خطراً حقيقياً عليها، حيث مضت الإدارات الأميركية وخاصة منذ إدارة باراك أوباما في هذا السبيل، مستندة إلى زعمها بأنها القطب الواحد المنفرد في السيطرة على ثروات العالم أجمع وقدراته الذاتية، إلى حين انتهاء الحقبة اليلتسينية الهزيلة، وتولي الرئيس فلاديمير بوتين قيادة الاتحاد الروسي وشروعه في إعادة بناء الدولة الروسية على الصعيد العسكري وتطوير تكنولوجيا الصناعة العسكرية، وعلى الصعيد الاقتصادي، ليدق بذلك المسمار الأخير في نعش الأحادية القطبية، ويضع حجر الأساس لحقبة التعددية القطبية في عالمنا المعاصر، ويُمَكِّن روسيا من مواجهة التحديات التي تحيق بها والتصدي لها.
بالبناءِ على تلك المعطيات «السلبية والإيجابية» «العدوانية والوطنية» اتخذت القيادة الروسية قرارها الاستباقي، بتنفيذ العملية العسكرية الخاصة في منطقة الدونباس، للحيلولة من عدم تحقيق الأهداف الإستراتيجية الأميركية العدوانية تجاه الاتحاد الروسي، ومنع عسكرة أوكرانيا، ومن عدم توسع حلف الناتو عبرها، وخاصةً بعد تمادي واشنطن وحلفائها الأطلسيين في إمداد أوكرانيا بمختلف الأسلحة المتطورة، ولاسيما بعد قرار ألمانيا مؤخراً تزويد أوكرانيا بدبّابات «ليوبارد 2» بالتزامن مع قرار مماثل اتّخذته الولايات المتحدة الأميركية بتزويدها بدبّابات «إم1– أبرامز»، الأمر الذي تعتبره موسكو إصراراً أميركياً وأطلسياً على المضي في محاولاتهم لتحقيق بعض جوانب الإستراتيجية الغربية ضد روسيا، وخاصة بعد إقرار كييف بصعوبة الوضع العسكري، عقب التقدم الذي حققته القوات الروسية في العديد من مناطق المواجهة العسكرية بين الجانبين.
على ضوء التطورات الراهنة، بما فيها استمرار الدعم العسكري الأميركي والأطلسي لأوكرانيا، ترى موسكو أن «الوضع الدولي الراهن متوتّر للغاية وأن آفاق الانفراج غير مرئيّة بسبب تصرّفات واشنطن وحلفائها الأطلسيين، وأن إمكانية التوصّل إلى تسوية ديبلوماسية للنزاع في أوكرانيا غير مرئيّة أيضاً، حيث تؤكد تصرفات الغرب بما فيهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الطبيعة الدولية للأزمة الأوكرانية، كما ترى موسكو أن الهدف الإستراتيجي لواشنطن والناتو هو الانتصار على روسيا في ساحة المعركة كآلية لإضعافها أو حتى تدميرها، وفي هذا السياق تعمل واشنطن أيضاً على كسر الروابط التقليدية بين روسيا وأوروبا وجعل حلفائها الأوروبيين أكثر اعتمادًا عليها، لذلك تجرّهم إلى حرب كبيرة وتعمل على إطالة زمن المواجهة، لكن ذلك لن يُحدِثَ تغييراً كبيراً في العملية العسكرية الخاصة، لأنه وفي سياق تصديها لمحاولات النيل من أمنها، تؤكد موسكو أن على أوكرانيا تنفيذ المقترحات الروسية المتصلة بنزع السلاح وتجريد الأراضي التي يسيطر عليها نظام كييف منه، والقضاء على التهديدات للأمن الروسي، مهددة بأنه ما لم يتم ذلك قبل فوات الأوان، فإن الجيش الروسي سيتولى زمام الأمور بنفسه، لافتة إلى أن الكرة الآن في ملعب واشنطن التي يمكنها إيقاف المقاومة الأوكرانية غير المجدية في أي لحظة، ومع ذلك تُبدي موسكو استعدادها للتفاوض مع جميع الأطراف المتورطة في المواجهة الروسية الأوكرانية حول إيجاد حلول تضمن حماية مصالح روسيا ومصالح مواطنيها وشعبها وليس لديها خيار آخر، غير أن الجانب الآخر يرفض ذلك، ما يعني في النتيجة أن المواجهة العسكرية ستطول مالم تقرر موسكو حسمها في الميدان.