قام المشروع الغربي في تعاطيه مع المنطقة التي كان ينظر إليها على أنها تحمل بين ثناياها جنين قوة يمكن لها أن تكون ذات تأثير وازن على المستويين الإقليمي والدولي، على إقامة عازل جغرافي بين شرقها وغربها مثلته «دولة إسرائيل»، على حين مضى ذلك المشروع في سياق تدعيمه لذلك العازل نحو تنشيط النزعات المختلفة التي تحتويها المنطقة بحكم التنوع الثقافي والحضاري الذي تحتويه هذي الأخيرة والذي يمكن له أن يكون سيفاً ذا حدين، فهو يصبح قوة فاعلة إذا ما نجحت «المصهرة» في إنتاج قوالب يمكن لها أن تسير بتناغم منضبط، أو هو يصبح قوة كابحة إذا ما تنافرت تلك القوالب التي يصبح أداؤها معوقاً للحركة إذا ما فقد التناغم الآنف الذكر، والشاهد هو أن سياقات المشروع كانت لها تلونات تتماشى مع حركة المجتمعات التي تظهرها حقائق السياسة والاقتصاد ومن ورائها معطيات الثقافة التي تضم طبيعة الأفكار السائدة والمزاج الشعبي العام، وما تخلفه هذي الأخيرة من تلاقيات، أو افتراقات، داخل النسيج المجتمعي لدول المنطقة.
ما بعد أحداث 11 أيلول 2001 بنيويورك تركزت الرؤية الأميركية على أن عملية إعادة ترتيب المنطقة يجب أن تنطلق من العراق، إلا أن السياقات التي أعقبت إسقاط بغداد العام 2003 كانت قد أثبتت قصور تلك الرؤية أو عدم كفايتها على أقل تقدير، وفي الغضون برز عدوان تموز 2006 على لبنان كما لو أنه فعل متمم للفعل السابق، وإن كان قد تأكد أيضاً عدم كفاية الفعل الذي لم تستطع فيه آلة الحرب الإسرائيلية إتمام مهمتها، وعندما هبت رياح «الربيع العربي» على دول المنطقة، ومنها سورية، كان النظام العربي الإقليمي مهشماً بفعل محطة 2 آب 1990 التي شهدت غزو العراق للكويت، وعليه فقد استعاد المشروع الغربي آماله من جديد لجهة إمكان ترسيخ كيانات تقوم على المحاصصة الطائفية والعرقية والإثنية التي تعزز مكانة «العازل» من جهة، ثم من شأن تأثيرها أن يشكل مقبرة للدولة الوطنية التي تعثر مشروعها نتيجة لعوامل عدة من بينها وأهمها عدم قدرة الحكومات المتعاقبة على حل التناقضات الأساسية المحددة والناظمة لاستقرار كياناتها في الوقت الذي راحت فيه تلك الحكومات تبدي اهتماماً بالثانوية منها والتي غالباً ما يكون حلها أشبه بالحبوب المسكنة التي من شأنها إسكات الألم لا معالجته.
شكلت التقاطعات ما بين «حزب الاتحاد الديمقراطي PYD» الذي يسعى إلى ترسيخ «إدارته الذاتية»، وبين الأهداف الأميركية، فرصة سانحة للمشروع الغربي الذي تغيرت رؤيته لتصل إلى نتيجة مفادها أن فكرة الانطلاق من تفجير الجغرافيا العراقية كانت خطأ، وأن صحيحها هو نقل فعل التفجير إلى نظيرتها السورية التي تتمتع بالعديد من المزايا التي لا تمتلكها الأولى، الأمر الذي يفسر إلى درجة كبيرة الدعم العسكري والسياسي الذي تقدمه الولايات المتحدة لميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» التي استولدها الحزب الآنف الذكر، وهو من حيث النتيجة يهدف إلى إرساء كينونة عرقية تشكل إنموذجاً قابلاً للاستنساخ في مناطق أخرى لفرض أمر واقع، أو لإيصال حكومة دمشق إلى القبول بمبدأ «فدرلة» الكيان السوري كحل وحيد ضامن لاستمرار وحدة الجغرافيا السورية، على الرغم من أن ذلك «الحل» لن يكون سوى وصفة ناجعة لتشظي الكيان السوري عاجلاً أم آجلاً، أو هو سيمهد الطريق أمام انغلاق تلك «الكينونات» على نفسها تمهيداً لترسيخ خصوصيتها وهو الأمر الذي يجعل من انفصالها أمراً حتمياً في نهاية المطاف.
منذ الصيف الماضي الذي شهد تطورين لافتين في مسار الأزمة السورية أولاهما التهديد التركي بشن عملية عسكرية برية تهدف لإبعاد «الخطر الكردي» عن الحدود الجنوبية لأنقرة وفق التوصيف الذي استخدمه القيمون عليها، وثانيهما الوساطة الروسية للتقريب بين دمشق وأنقرة كخطوة لا بديل منها لمواجهة المرامي الأميركية التي راحت بدورها تعمل على إنضاج سيناريوهات بديلة تصلح للالتفاف على الحراك الروسي، والتي كان آخرها محاولة سحب ملف التفاوض الخاص بالمعارضة السورية من يد أنقرة وتركيزها باليد الأميركية، الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي صدر يوم 25 كانون الثاني الجاري في أعقاب لقاء احتضنته جنيف وهو جمع بعضاً من قادة المعارضة السورية إلى جانب مسؤولين غربيين، والبيان أكد أن «القرار 2254 هو الحل الوحيد لإنهاء الأزمة السورية»، وفي تراجم ذلك نجد أن الغرب قد قرر المضي في مواجهة المشروع الروسي الراهن الذي يقوم على محاولة إيجاد تسوية سياسية «جزئية» للأزمة السورية انطلاقاً من مسار «أستانا» الذي ما انفكت جولاته التسع عشرة تؤكد وحدة وسيادة واستقلال الأراضي السورية.
في موازنة فرص النجاح لكلا المشروعين يمكن القول إن العلاقة الأميركية الكردية، هي علاقة ظرفية، ومدتها تتوقف على استمرارية الحقبة التي تحتاجها واشنطن لتوظيفها في المنطقة، لكن المخاطر المتولدة عنها ليست بقليلة وخصوصاً إذا ما طالت فترة الاحتياج الآنفة الذكر، لكن الركون إلى المعطى السابق، وهو صحيح، ليس كافياً بالقدر الذي يمكن الاطمئنان فيه إلى فشل المشروع الأميركي، على حين من الممكن تعميق هذا الفعل الأخير عبر ردود الأفعال السورية، الذي لا تحظى فيه «الفيدرالية» بتأييد شرائح وازنة، جنباً إلى جنب ردود الأفعال الإقليمية الرافضة له وعلى رأسها تركيا التي تدرك أن إنشاء كينونة عرقية في الشمال الشرقي من سورية أمر من شأنه أن يؤسس لبؤرتي توتر أولاهما عربية – كردية، والثانية تركية – كردية.
كنتيجة تريد واشنطن اليوم قيام سورية «فيدرالية» عمودها الفقري هو «المكون الكردي» الموالي لها مع إضافة بعض الزراكش لذلك المكون لإبعاد الصبغة العرقية عنه، لكن ذلك لا ينقص، أو يضيف، إلى الصورة، والفعل لا يقوم على أي مشروعية تاريخية أو جغرافية ناهيك عن أنه يفتقد مقومات من نوع العامل الديموغرافي وثقله.
قد تكون العلاقة السورية التركية شديدة التعقيد، وفيها من الملفات ما يرجح طول المدة التي تحتاجها كل من دمشق وأنقرة لكي تستعيدا «الدفء» الذي عرفتاه سني 2003 – 2009، لكنهما الآن أمام لحظة تلاقي مصالح تاريخية تحتم النظر إلى تلك المسألة بمناظير أخرى، مناظير تبرز أن «الجغرافيا» واستقرارها فوق أي اعتبارات أخرى.