لم يكن شوقي بغدادي وجهاً واحداً في الإبداع والحياة، بل كان متعدد الوجوه، عركته الحياة وصبر عليها، عرف ما يريد في أحايين كثيرة، وعمل على ما أراد، فوصل مرتبة عليا في سعيه وعشقه وعلمه، وشوقي بغدادي لدى جيل وأجيال من أبناء سورية هو المدرس المتقن الذي درّس بإخلاص وفصاحة، واكتشف بين طلابه العديد من المواهب وبقي مخلصاً لها إخلاصاً شديداً، أعطى التدريس الجزء الكبير من حياته، وبقيت الحقيبة الجلدية علامته وترافقه طويلاً حتى بعد أن ترك مهنة التدريس أو تركته، وكم كان الأساتذة الذين زاملوه مدرساً يجلّونه، وقد تحدث عن مهارته سليمان العيسى وهو الموجه الأول طويلاً، أعطاها حياته فأعطته بقاء بين طلابه وأحبابه وعشاق الأدب والشعر.
وشوقي بغدادي يحتاج دراسات أكاديمية لبيان شعره وقيمته وما يحتويه فناً وفكراً، وهو الشاعر الذي رافق مرحلة النهوض الفكري القومي واليساري منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين، واعتنق الكثير من المبادئ الاشتراكية واليسارية، ودافع عن المجتمع المظلوم والحرية، وكانت مناهجنا الدراسية التي صحبتنا تعجّ بالأشعار الثورية والإصلاحية لمحمد الفيتوري وشوقي بغدادي وسليمان العيسى وغيرهم من الشعراء الذين أذكتهم الحركة الثورية التحررية فأعطوها جذوة فكرهم وشبابهم، فعاشوا ذروة النضال والصراع في تأسيس الدولة الوطنية العربية، وعاشوا الانتكاسات وأثرت فيهم وفي مسيرتهم وأشعارهم وكتاباتهم..
شوقي بغدادي أستاذ جيل بكل المعاني، علّم ودرّس، أبدع وقال شعراً ثورياً مهماً، لا يختصره ديوانه المنشور منذ زمن في مجلدين اثنين، فقد جادت قريحته بالكثير من قبل، وجادت كذلك بشعر كثير لم يُضم إلى هذين المجلدين، وعلى شعره، وتحت رعايته وجدنا كثيرين من الأدباء الذين كان شوقي بغدادي يحنو عليهم ويرعاهم ويستوعبهم ويوجههم.
وشوقي بغدادي الأديب المنظم الذي أعطته مهنة التدريس الكثير من التنظيم، كان من الذين أرادوا للأدباء تنظيماً يضمهم ويرعى مصالحهم وكانت جهوده في تأسيس هذا التنظيم واضحة ومذكورة حتى استوى ذلك في اتحاد الكتاب العرب والذي أعطاه شوقي الكثير من وقته مشاركة ونشاطاً وإسهامات، بل إن شوقي كان لا يبتعد كثيراً عن أروقة الاتحاد، والإشراف على صفحات الأدب، ففي الصحف العامة أشرف على صفحات إبداع الشباب سنوات طويلة، فقرأ وهذّب واحتوى وخرّج الأدباء.
وفي ميدان القامات كان شوقي قامة مساوية لأقرانه إن لم تكن أكثر بروزاً في مناحٍ كثيرة، ولكنه بحب الصداقة والصديق، وبتدابير القدر أوكل إليه أمر تكريم أصدقائه برعاية إنتاجاتهم، أو بالحديث عنهم، أو بطرق مختلفة، وكان شوقي بغدادي صادقاً مع نفسه وصادقاً مع أصدقائه، ولعل عنايته بشعر صديقه محمد الحريري خير مثال على ذلك، فقد رحل الحريري تاركاً وراءه شعراً كثيراً مبعثراً ومنثوراً، فأمضى شوقي وقتاً طويلاً وهو يحرر ويرتب ويعيد ويضبط ويشكل، وفي النهاية وضع مقدمة صافية ولائقة بشعر صديقه محمد الحريري، ليصدر ديوان الحريري عن اتحاد الكتاب العرب بعد وفاة الحريري، ولولا روح الحب والإيثار عند شوقي بغدادي لضاع شعر الحريري مع ما ضاع من أدب وشعر لمبدعين كثر، ناهيك عن مشاركاته في كل مناسبة للحديث عن أصدقائه، وشوقي بغدادي هو الذي كتب عن نزار قباني مجموعة مقالات مهمة بعد رحيله، قد يوافقه عليها النقاد وقد لا يوافقونه، لكنه جلا صورة عن قرب لرجل ربطته به علاقة وطيدة تقترب من الصداقة.
واسم شوقي بغدادي في المقالة لا يقل عن أي فن كتابي، فقد كان صاحب زاوية إشكالية إسبوعية يتابعها القرّاء ويحبونها، وتميز عن غيره من الكتّاب للزوايا بمعرفته العميقة وقراءاته لسبب التدريس فكان يغوص في عمق الأشياء وكنهها.
أما شوقي الإنسان فأصدقاؤه المقربون أولى بالحديث عنه، وهو الإنسان الدافئ الذي لم يتخلف عن جلسة لأصحابه وإن كانوا بعمر أولاده، وقد حضرت على مقربة منه مرات وشهدت دماثته ولطفه وحبه.
في دمشق التي اختارها وأحبها عاش شوقي بغدادي وغادرنا وتمشي وراءه تجرية شعرية غنية تستحق العناية والدراسة، وإرث فكري وثقافي يمكن أن يقف عنده الدارسون حكاية مرحلة.