أخيراً، وبعد طول انتظار أطلقت المعارضة التركية برنامجها الانتخابي يوم الإثنين في الثلاثين من شهر كانون الثاني الماضي، من غرفة تجارة أنقرة، وذلك قبل أشهر من موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، والبرلمانية الحاسمة التي من المقرر إقامتها في 14 أيار القادم.
كي يعرف المتابعون والمهتمون من هي أطراف المعارضة التركية أو ما اتفق على تسميته بـ«الطاولة السداسية»، فهؤلاء هم:
• حزب الشعب الجمهوري وزعيمه كمال كيلتشدار أوغلو، وهو علماني أتاتوركي.
• الحزب الجيد بزعامة ميرال أقشنير، ذات توجه قومي يميني، وانشقت عن حزب الحركة القومية شريك أردوغان في الحكومة.
• حزب السعادة بزعامة تمل كرم اللـه أوغلو، وهو إسلامي محافظ، ويعاني من معارضة داخلية بزعامة د. مصطفى كامالاك، وهذا زار سورية عام 2012، إضافة لوجود اتجاه آخر خارج حزبه يقوده فاتح أربكان نجل زعيم الإسلام السياسي التقليدي نجم الدين أربكان تحت اسم «حزب الرفاه من جديد».
• حزب الديمقراطية والتقدم بزعامة علي باباجان، الذي انشق عن حزب العدالة والتنمية، وشغل سابقاً مناصب وزير الخارجية، وزير الاقتصاد، وزير شؤون الاتحاد الأوروبي في حكومات أردوغان.
• حزب المستقبل، بزعامة أحمد داود أوغلو، وكان يشغل مناصب وزير الخارجية ورئيس الوزراء، ورئيس حزب العدالة والتنمية، قبل طرده من الحزب الحاكم.
• الحزب الديمقراطي بزعامة غولتكين أويصال، وهو حزب ضعيف وواجهة سياسية ليس إلا، وبدأ كامتداد لتانسو تشيللر التي تقف الآن في صف الحكومة.
الواضح أنه لا نقاط تقاطع إيديولوجية بين هذه الأحزاب، ونقطة التقاطع الوحيدة هي الإطاحة باردوغان تلاقياً مع ما أعلنه الرئيس الأميركي جو بايدن قبل سنوات.
تحتوي خريطة الطريق للمعارضة التركية نقاطاً لافتة تؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه، ومنها:
• إعادة تفعيل دور البرلمان التركي بشكل أكبر مما هو عليه الآن في ظل النظام الرئاسي القائم، ومنحه سلطة الانسحاب من الاتفاقيات الدولية، وأخذ إذنه قبل إغلاق أي حزب سياسي.
• إعادة تفعيل منصب رئيس الوزراء، والحد من دور رئيس الجمهورية الذي لن ينتخب إلا لمرة واحدة، ولمدة سبع سنوات، وتخفيض العتبة الانتخابية لدخول البرلمان التركي إلى 3 بالمئة فقط، ما سيفسح المجال للأحزاب الصغيرة بدخوله.
كما أشار بيان المعارضة إلى العودة لقصر تشانقايا بدلاً من القصر الرئاسي الحالي بالنسبة للرئيس القادم، وتحويل المقار الرئاسية لخدمة الشعب.
تخفيف قبضة الحكومة المركزية على الحكومات المحلية، وهو ما يتفق مع الطروحات الغربية بشأن مشروع الفدرلة في المنطقة!
وفي حين أن البرنامج الاقتصادي للمعارضة قد لا يختلف كثيراً عما طبقته الحكومات التركية المتعاقبة منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، لكن البصمة الأوضح لاتجاه المعارضة التركية يظهر بوضوح فيما يخص السياسة الخارجية إذ يؤكد بيانهم على:
* الارتباط الوثيق مع الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية، وحلف الناتو، والعودة لطرح مسألة انضمام تركيا للاتحاد التي لا تزال تقف على أبوابه منذ عقود من الزمن، واللافت هنا أنهم يطرحون العودة لمشروع طائرات F 35، الذي أخرجت منه تركيا بسبب حيازتها أنظمة دفاع جوي روسية إس 400، وبالرغم من استخدام مصطلحات مواربة في البيان مثل علاقات متوازنة مع أميركا، وتعاون على أسس عقلانية مع الناتو، لكن هذه العبارات لا تخفي لون وهوية المعارضة.
* بالنسبة لروسيا فإن المعارضة تتحدث عن تقوية العلاقات معها، وجعلها مؤسساتية، أي إسقاط العلاقات الخاصة بين أردوغان وبوتين، والعودة بالعلاقات إلى نمط عادي مع أي دولة، والأمر كذلك بالنسبة للصين وإيران.
* بالطبع البيان أشار للعبارات التقليدية مثل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وإنهاء السياسات الخارجية على أساس الإيديولوجيا، على الرغم من أن أحمد داود أوغلو أحد أقطاب المعارضة الآن، هو صاحب نظرية مذهبة السياسة الخارجية التركية، وتطوير السلام والاستقرار والتعاون مع دول الجوار.
* جرت الإشارة إلى البدء بإرساء السلام في سورية، والعمل على حماية وحدة أراضيها، ودعم قرارات الأمم المتحدة، وعلى رأسها القرار 2254، والسعي لإنهاء معاناة الشعب السوري عبر إطلاق حوار مع السلطة في دمشق، وكل الأطراف الأخرى التي تمثل فئات من الشعب عدا الجماعات الإرهابية.
* إعادة الدور لوزارة الخارجية التركية في صنع السياسات وقيادتها، وخاصة بعد أن أصبحت تدار في القصر الرئاسي التركي.
بيان المعارضة التركية جاء في 244 صفحة وحوالي 75 عنواناً، و2300 وعد انتخابي، ومن الصعب في مقال استعراض ما ورد فيه، وما عرضته هو أبرز وأهم النقاط التي قد تهمنا، ولكن الأكثر أهمية هو قراءة ما بين السطور بعيداً عن العبارات المنمقة والتقليدية، والوعود الانتخابية، وسأقدم هنا رأيي الشخصي في هذا البيان بالمختصر المفيد:
1- البيان فيه بصمات أميركية أوروبية واضحة، وفيه تأكيد بما يخدم المشاريع الأطلسية بوضوح شديد مثل الفدرلة، العودة لنظام سياسي يمكن التحكم به عبر البرلمان، وإضافة أحزاب صغيرة له، إضعاف موقع الرئيس، وتقوية مراكز أخرى مثل البرلمان ووزارة الخارجية التي يطمح أحمد داود أوغلو لاستلامها، التأكيد على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وأميركا والناتو كأولوية مطلقة لتركيا.
2- هناك تحالف سري غير معلن بين أطراف المعارضة التركية، وجماعة فتح اللـه غولن الذين تمت تصفية أذرعهم داخل مؤسسات الدولة التركية بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016، وغولن هو رجل الـ«سي آي إيه» الخطير الذي مازال مقيماً في ولاية بنسلفانيا الأميركية، وترفض واشنطن تسليمه لأنقرة، وقد أطلقت المعارضة وعوداً بإنهاء الاعتقالات لأعضاء الجماعة، وإطلاق سراحهم بعد المحاكمات العادلة، وإنهاء العمل بقوانين الطوارئ ومراسيمها، وينطبق الأمر على العناصر المشتبه بارتباطهم بمنظمة حزب العمال الكردستاني المحظورة في تركيا، والمصنفة إرهابية.
3- لا توجد أي إشارة مميزة للعلاقات مع روسيا والصين وإيران، سوى أنها ستتحول لعلاقات مؤسساتية، الأمر الذي تعني ترجمته بلغة واضحة أنه لن تكون العلاقات مميزة مع هذه الدول، وقد تلتزم تركيا بالعقوبات المفروضة أميركياً، كما ستنهي العلاقات العسكرية، والتعاون القائم بين البلدين في مختلف المجالات، وهو ما قد يفسر الدعم الذي تقدمه موسكو، وطهران علنية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات القادمة.
4- بالنسبة لسورية: صحيح أن العبارات الواردة في البيان قد يجدها البعض جيدة مثل: تطبيع العلاقات، ووحدة الأراضي، وسيادة الدولة السورية، وحل مسألة اللاجئين، لكن ذلك لم يتضمن أي وضوح تجاه مسائل مثل:
• الاحتلال الأميركي لجزء من الأراضي السورية.
• إدانة مشروع «قسد» الانفصالي، واعتباره خطراً على البلدين.
• مكافحة الإرهاب الذي أشير بشأنه بعبارات فضفاضة تتحدث عن نهج يأخذ بالاعتبار الوثائق والقرارات التي اتخذتها الأمم المتحدة، ومجلس أوروبا، ومنظمة الأمن، والتعاون الأوروبي.
5- السؤال الأهم الآن: إذن ما هو الفرق بين السلطة الحاكمة الآن في تركيا، والمعارضة؟
الحقيقة أن السلطة الحاكمة في تركيا برئاسة أردوغان خضعت إلى حدّ ما لضغوط الاتجاهات القومية، والوطنية في بعض القضايا إذ ذهبت نحو التعاون العميق مع روسيا وفقاً للمصالح المتبادلة، حيث إن حجم التبادل وصل إلى 42 مليار دولار، وأيضاً مع الصين وإيران، وهي لم تلتزم بالعقوبات التي فرضتها واشنطن على هذه الدول، كما أنها سارت في مسار أستانا الخاص بالمسألة السورية بعيداً عن واشنطن، وتعمل الآن مع موسكو وطهران للتقارب مع دمشق ببطء، ولكن بقناعة لأن السياسات القديمة سقطت، ولم تعد تجدي نفعاً.
السلطة الحاكمة حالياً تلعب دوراً مهماً في المسألة الأوكرانية، وهي تشكل بالنسبة لموسكو رئة للهروب من العقوبات الاقتصادية الجائرة، وتتجه للعب دور مركز للغاز، ومركز للحبوب، ونقطة تقاطع مهمة في الكثير من الملفات.
أما ما يجب أن نفهمه بوضوح أن السياسات الداخلية لتركيا، صحيح أنها مهمة للناس مثل مستوى المعيشة، التضخم، البطالة… إلخ، لكن موقع تركيا وأهميتها، ودورها لا يتقرر من خلال السياسات الداخلية فقط، وإنما من خلال العلاقات والتوازنات مع القوى العظمى والإقليمية، ومن هنا تبرز أهمية المشاريع الدولية التي تتصارع داخل تركيا وعليها، وقد يكون ما أعلنه علي باباجان أوضح تعبير عن ذلك: «قلت إن الأمر سيكون صعباً، لكننا سننجح، وقد فعلنا ذلك، سينظرون أيضاً إلى نص «السياسات المشتركة» من أوروبا، ويقولون بإعجاب أحسنت تركيا «عفارم» تركيا».
هذا هو هدف المعارضة أن يقول الغرب لهم أحسنتم، ونحن راضون عنكم.
أحد الأصدقاء الأتراك قال لي هناك مثل تركي يقول: «إذا شاهدت الحيوانات المفترسة، مع الأليفة والوادعة تخرج معاً راكضة من الغابة، فاعلم يا صديقي أن ثمة حريقاً في الغابة»، وكلامه جاء تعبيراً عما يجمع أطراف المعارضة، فلا شيء سوى إضرام الحريق لمصلحة الأطلسي والغرب الجماعي، وما البدء بإغلاق القنصليات الأوروبية في المدن التركية البارحة، وتحذير السفارة الأميركية من عمليات إرهابية في أنقرة، والحشد العسكري الأطلسي في الجزر اليونانية قبالة السواحل التركية إلا رسائل بالنار قبل الانتخابات التركية دعماً للمعارضة، وتخويفاً للسلطة الحاكمة، ونعتقد أن استعجال موسكو لدفع مسار التقارب السوري التركي يأتي على خلفية استشعارها لمخاطر كبرى قادمة.
أعود للقول: الخيارات أمامنا كما ترون بين السيئ والأكثر سوءاً، ونحن نبحث عن مصالحنا بينهما.