حروب التكنولوجيا أو حروب الرقائق الإلكترونية أو الموصلات، ما هي إلا تسميات لحروب من نوع آخر، بعيدة كل البعد عن المفهوم التقليدي للحروب التي تأخذ شكل السلاح المستخدم نووياً أو كيميائياً أو حتى تقليدياً.
التصعيد الأميركي الخطير ضد بكين بهدف شرعنة اتخاذ إجراءات عقابية عليها أمام الرأي العام العالمي تجلى بعدة طرق، أولها من خلال الإعلان عن اكتشاف «بالونات التجسس» الصينية فوق أراضي الولايات المتحدة، وفوق أميركا اللاتينية، وأيضاً اتهام صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية الصين بتقديم التكنولوجيا للجيش الروسي، حيث نقلت عن بيانات الجمارك الروسية أن شركات الدفاع الصينية المملوكة للدولة، تشحن معدات الملاحة وتكنولوجيا التشويش وأجزاء الطائرات المقاتلة، لشركات الدفاع الروسية المملوكة للحكومة الخاضعة للعقوبات، إضافة إلى ذلك كله الإعلان عن محادثات عُقدت في واشنطن، بين مساعدي الأمن القومي لرئيس الولايات المتحدة ورئيس وزراء الهند جيك سوليفان وأجيت دوفال، اللذان اتفقا على توسيع التعاون في مجال الأسلحة الحديثة وأجهزة الكمبيوتر العملاقة وأشباه الموصلات وغيرها من مجالات التكنولوجيا العالية، في محاولة لجر الهند إلى حرب تكنولوجية مع الصين إلى جانب تايبيه.
واشنطن تحاول زيادة الضغط على بكين ضمن حرب التكنولوجيا، وهذا الأمر ليس بالجديد وقد بني على روايات زائفة أولها اتهامات التجسس ضد شركة التكنولوجيا الصينية الوطنية العملاقة «هواوي» التي اعتبرتها واشنطن حصان طروادة العصر الحديث، في ظل تهديد البوابة الخلفية المحتمل المتمثل في منصتها للجيل الخامس من الاتصالات العالمية، وهو أمر تحدثت عنه مجلة «فورين أفيرز» الأميركية في وقت سابق، حيث قال الكاتبان كريستوفر داربي وسارة سيوال إن مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن القدرات الدفاعية ليست سوى جانب واحد من صراع الريادة التكنولوجي بين القوى العظمى، حيث تلعب بكين لعبة ذكية للغاية، من خلال استخدام الابتكار التكنولوجي كوسيلة لتحقيق أهدافها من دون الحاجة للجوء إلى الحرب، فالشركات الصينية تبيع البنية التحتية اللاسلكية لشبكات الجيل الخامس في مختلف أنحاء العالم، وتسخر البيولوجيا التركيبية لتعزيز إنتاجها الغذائي، وتسابق الزمن لصنع رقائق إلكترونية أصغر وأسرع.
ولذلك قامت وزارة التجارة الأميركية بتوسيع ما تسمى قائمة الكيانات التي تستخدمها لإدراج الشركات الأجنبية في القائمة السوداء لأغراض الأمن القومي، لتشمل سلسلة توريد «هواوي»، بالإضافة إلى عدد من شركات التكنولوجيا الصينية، ومع إقرار الرئيس الأميركي جو بايدن قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم لعام 2022 عمدت الولايات المتحدة لتبني قواعد لعبة السياسة الصناعية في الصين وشرعت تدخل الدولة لدعم الإبداع التكنولوجي، وفي تشرين الأول الماضي، فرضت إدارة بايدن قيوداً صارمة على الصادرات من رقائق أشباه الموصلات المتقدمة، بهدف خنق الجهود الصينية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.
الرعب الأميركي من التفوق التكنولوجي والبحث العلمي الصيني، بات واقعاً وموثقاً بالأرقام وفقاً لتقارير عالمية عديدة آخرها تقرير صادر عن وزارة العلوم والتكنولوجيا اليابانية نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية، ويفيد بأن الصين تفوقت على الولايات المتحدة بصفتها الرائدة عالمياً في كل من إنتاج البحوث العلمية والدراسات «عالية التأثير»، حيث وجد التقرير، أن الصين تنشر الآن أكبر عدد من أوراق البحث العلمي سنوياً، تليها الولايات المتحدة، ثم ألمانيا، والصين تنشر ما معدله 407 آلاف ورقة علمية في المتوسط سنوياً، متفوقة بذلك على 293 ألف مقالة في دوريات الولايات المتحدة.
يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تأخرت كثيراً عن اللحاق بركب التطور العلمي والتكنولوجي الصيني، ولن تفيد التشريعات الأميركية القائمة على دعم البحث العلمي من جهة، ووضع قيود على سلاسل توريدات الإنتاج الصينية من جهة أخرى، في إيقاف الزمن وعرقلة الطموح الصيني الذي خلص إلى مقولة مفادها: فمن يملك العلم يحكم العالم.