الدولة السورية رغم الحرب والجراح لم تغير مواقفها القومية … ارفعوا الظلم والحصار عن سورية.. أين صوت المثقفين المؤثر؟
| إسماعيل مروة
من جرّب الكيّ لا ينسى مواجعه
ومن رأى السُّمَّ لا يشقى كمن شربا
إن جميع أنواع التكافل والتضامن في المآسي مطلوبة، وعلى كل إنسان أن يهرع لأخيه الإنسان حسب إمكاناته، ولو كان لديه خصاصة وحاجة، ولو كان التكافل بكلمة أو عبارة أو دمعة، أو بأي شيء مادي، ولو كان قليلاً، وهذا ضمن البلد الواحد والمدينة الواحدة، مهما تعددت الطوائف والمذاهب والشرائع، إذ لا يمكن لأي جسد أن يكون معافى دون أن تسلم كل الأجزاء والجوارح، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن.. إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
ولا يفوتنا أن نقول: بأن أي نوع من التعاطف مهما بلغ، ولو بذل واحدنا ماله وجهده وقلمه ودمعه، فإن هذا لا يعدل صاحب المصاب (من جرّب الكي لا ينسى مواجعه).. فرق كبير بين من صار مشرداً وفقد أهله، وبين من يقدم المواساة لهؤلاء، لذلك علينا أن نتلطف كما أمرنا الشرع، وكما تقتضي الأخلاق، ونرجو من المصاب أن يقبل المشاركة منا، ومن المعيب على المتفرج أن ينتظر صرخة استغاثة من المصاب.
مفهوم النجدة والتكافل
عجيب أمر وسائل التواصل عندما تدعو إلى المؤازرة، وعجيب أمر الدول التي تنتظر الاستغاثة لتلبي الحاجة، أو لتقوم بواجبها، وكأننا نترحم على أيام سلفت، وجيلنا شهد مرات عديدة كان شح المياه يؤثر على سورية، وأرسلت سورية الماء إلى العربي المجاور متجاوزة كل شيء، وكلنا يذكر عندما فتحت مخازن الاحتياطي الاستراتيجي من الغلال والخيرات من أجل نجدة المنكوب من الأشقاء والعالم، ووصل ذلك إلى كوبا ذات عام من الأعوام، وكان السوري فخوراً بما يقدمه من قوته وهو بحاجة ماسة له.. وفي القريب من الزمن، وبغض النظر عن آراء المتحذلقين والمؤدلجين فتحت سورية أبوابها، وبطواعية وحب ونجدة استقبل السوريون أشقاءهم والأصدقاء دون تحميلهم أي نفقات أو أعباء، والتاريخ البعيد، والوجوه السورية المشرقة اليوم تذكر ما كان مع القادمين إلى سورية من بطش أو ظلم أو كارثة، فكانت حلب المنكوبة، ودمشق المكلومة ملاذاً وموطناً لجموع الأشقاء الذين قدموا إليها.
فماذا جنت سورية بعد كل ما تعرضت له من حرب مدمرة، وحصار قاس جائر، وعداء من أعداء لا يرحمون؟ مَنْ مِنَ الأصدقاء تقدم؟ ومَنْ مِنَ الأشقاء قدم للإنسان السوري وللحكومة السورية ما يستحق عليه؟ ومع ذلك نجد أن الدولة السورية لم تغير نظرتها ولم تقل سورية أولاً، وإنما بقيت على رؤيتها العربية والإقليمية والدولية! واليوم مع فاجعة الزلزال نجد أن الجميع يتقدم بوجل وخوف وحياء، وكأن المراقبين ينتظرون زلزالاً يأتي على سورية كلها ليمارسوا عمليات الرثاء والبكاء! بعضهم لا يرى سورية منكوبة! بعد الحرب والحصار ومحاولات التجويع، ومنع أي نوع من المعدات كيف يواجه السوريون مأساة الفاجعة؟!
إن كانت الضحايا فوق المئات والإصابات بالآلاف، والأعداد مرشحة للازدياد بعد رفع الأنقاض في الضحايا والإصابات، إن كانت لا تمثل كارثة، فكيف تكون الكارثة؟!
مناشدات ضائعة
كثير من السوريين، وعدد من وسائل التواصل تحاول أن تستصرخ من أجل المساعدة، ولكن إن لم يهبّ الإنسان المتفرج من تلقاء نفسه لفعل ما يترتب عليه، وأن يكون حراً ومندفعاً، فإنه لا رجاء منه، ولا تجدي معه كل الصرخات التي تنطلق هنا وهناك، فليهنأ بالعيش الرغيد الذي يظنه سرمدياً، سورية حاولوا تجويعها، والمفارقة التي لا يعرفها الكثيرون فإن سورية تنتج من خيراتها وتطعم أولئك شتى أنواع المزروعات، وسورية وفي كل سنوات الحرب لم تجع، بل إن إنسانها يعمل ليل نهار ويقدم منتجاته، ولم يكن بحاجة لأي دولة إلا فيما يتم استيراده، وفي المواقع التي صارت بفعل الاحتلال خارج نطاق السيطرة، فشح القمح لغياب الأرض، والمشتقات النفطية لوقوعها تحت الاحتلال، والزيتون لضياع الأرض مؤقتاً، سورية المكتفية بالقمح ذاتياً، ومن أفضل أنواع القمح اليوم تعيش واقعاً مؤقتاً، وسورية الثالثة عالمياً في زيت الزيتون قبل الحرب عليها ستعود، وستأخذ المرتبة الأولى.. ليس مطلوباً من أحد أن يمنح السوريين، بل ارفعوا أيديكم عن السوريين، إنهم قادرون على الحياة ولملمة الجراح، والانطلاق إلى آفاق لا تستطيعون إدراكها.. الرجاء من جميع المتحمسين الذين يطلبون المساعدة أن يكفوا عن ذلك، فكل شيء يأتي بعد طلب وإلحاح لا قيمة له، إن أتى، فهم يرون السمّ ولا يشقون كمن شربا، ولا يذكرون من سورية اليوم إلا الواقع الذي عملوا عليه لتصل إلى ما وصلت إليه.
ليس كمن رأى!
أغلب المتحدثين والمتعاطفين الذين يتحدثون على مواقع التواصل، وفي وسائل الإعلام يتحدثون كلام السمع، ويتعاطفون بصدق مع فاجعة سورية، لكن الأمر مختلف على أرض الواقع، فالعاصمة الاقتصادية حلب، خزان الاقتصاد والبناء وكل ذلك، حاملة القلعة وحارسة سيف الدولة اليوم تفقد الكثير من إمكاناتها بواقع المأساة والزلزال الذي ليس بمقدور أحد أن يرده، وزيتونة إدلب العظيمة التي تفوقت على العالم لا ترجو أكثر من فرصة لإعادة جذورها إلى الأرض، وحماة تعد مسجدها لأبي الفداء ليكتب صفحات مجد وبطولة، والشام التي أظهرت جراحها تريد جمع أخواتها حولها من جديد لتبدأ رحلة حياة مختلفة وتعود لعطاء الآخرين، وليس لاستقبال العطايا (وهم يسمون الأذى مِنَنا) ومن رأى رأى السوريين يفتشون بين الأنقاض بأنفسهم عن الأحباب والأصدقاء والأغراب عنهم، يعملون وحدهم في ظروف قاسية، ويحملون على أكتافهم، ويذرفون الدموع من مآقيهم هم لا من عيون الآخرين.
ارفعوا الحصار والظلم عن السوريين، وهم قادرون وحدهم على معالجة أشيائهم، وعلى مد يد العون للآخرين.. أكثر من عقد مضى على الحرب التي شنت على سورية من الطواغيت وما تزال سورية قوية ومحبة وستبقى، ولو كانت هذه الحرب على أي من المتفرجين ولو بربع حدتها أو عُشْرِه لانتهت منصة المتفرجين واحترقت.. أما سورية فما تزال زنوبيا تحرس الصحراء، والغلال تخرج من أرضها، ونزار يفضح المتفرجين وهو يردد على المدى..
من رأى السم لا يشقى كمن شربا..