في كل القوانين والتشريعات الدولية الملزمة وغير الملزمة والتي تبناها الفاعلون الدوليون بمعاهدات جماعية أو ثنائية على شكل اتفاقات أو معاهدات إلى جانب الأعراف، توجب على هؤلاء الفاعلين من دول أو منظمات، تقديم يد العون والمساعدة للدول التي تتعرض لأزمات وخاصة الكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين وانتشار الأوبئة وغيرها من هذه الكوارث التي غالباً ما تترافق مع تداعيات سلبية تصيب حياة البشر وينجم عنها خسائر اقتصادية هائلة، إلى جانب التغيير الذي يصيب مكان الحدث أو الكارثة.
إلا أن ما يسمى بالمجتمع الدولي فإنه يمارس مجدداً ازدواجية المعايير في التعامل الإنساني وذلك للمرة الثانية مع سورية، الأولى كانت أثناء انتشار وباء جائحة كورونا عام 2020، إذ لم تكتف معظم دول هذا النظام ومنظماته، باستثناء الحلفاء من الشرق، من عدم مد يد العون لسورية المحاصرة المنهكة من تداعيات الحرب والحصار الاقتصادي الجائر عليها، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير حينما رفعت من سقف عقوباتها ووسعتها ولوحت بالتهديد بها لكل من يقدم المساعدة لسورية، ولاسيما إدارة الولايات المتحدة الأميركية التي مارست سياسة النفاق الإنساني تجاه سورية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب حينما تفاخر مسؤولوها وفي مقدمتهم المبعوث السابق إلى سورية جيمس جيفري بأنهم خلف تدني قيمة العملة الوطنية لتجفيف المنابع النقدية للدولة السورية، وفي الوقت ذاته زعموا أن العقوبات لا تطال استيراد المواد الصحية التي تتطلب نقل العملة لشراء منتجاتها.
هذا السلوك اللإنساني ما زال يمارس تجاه سورية بعد تعرضها لتأثير مباشر لسلسلة الهزات الأرضية التي تعرض لها الجنوب التركي، حيث شهدت مدن حلب وإدلب وحماة واللاذقية وطرطوس هزات مؤثرة أدت لمقتل وجرح الآلاف من السوريين في غضون ساعات قليلة ومازال الكثير منهم تحت الأنقاض مجهولي المصير حتى كتابة هذا المقال.
ولكي لا نستفيض بالشرح كثيراً، وحتى لا نتهم بتوجيه أصابع الاتهام للولايات المتحدة الأميركية ومعظم دول النظام الدولي الذي بات اليوم يشبه الحظيرة التي تقاد بما فيها من دواب وفق أهواء واشنطن، فإننا سوف نستعرض الحقائق التالية، فلربما يصحو الضمير الإنساني الدولي فجأة أو تصل هذه الحقائق إلى الرأي العام الغربي لكي يعي طبيعة وحقيقة أنظمته السياسية التي تدعي حرصها الشديد على حقوق الإنسان وحرياته وكرامته:
الحقيقة الأولى تتمثل في أن معظم الأبنية والمنشآت والخدمات التحتية ومعظم السوريين الذين قتلوا نتيجة هذا الزلزال كان نتيجة سياسات الدول الغربية وعلى رأسها أميركا وذلك لعدة أسباب:
1- استمرار هذه الدول في إبقاء الجرح السوري مفتوحاً من دون حل يناسب مصالحها وإستراتيجياتها ويمكن تأكيد ذلك من خلال العديد من تصريحات المسؤولين الأميركيين السياسيين والعسكريين.
2- تصدع المنشآت والبنى المختلفة نتيجة إمداد هذه الدول للمجاميع المسلحة بالأسلحة ما أدى لتحويل الكثير من هذه المدن لساحات صراع واشتباك، أو حولوها لمناطق استهداف من التنظيمات المسلحة على غرار الساحل السوري.
3- عدم التخلي عن سياسة الحصار الاقتصادي، الذي قيّد وحدّ من إمكانات السوريين ودولتهم من البدء بإعادة الإعمار أو ترميم مناطقهم بشكل مقبول وهو ما جعل مدينة حلب على سبيل المثال لا الحصر تشهد فاجعتين، الأولى الخراب الناجم عن الحرب، والثانية تصدع وانهيار بنيتها الهشة أساساً.
الحقيقة الثانية واضحة للجميع ومن دون الحاجة للتلميح لها، وتتجلى في مسارعة معظم دول ما سميناه الحظيرة الدولية بتقديم الوعود ومسارعتها بتقديم المساعدات لتركيا، مقابل إعلان تعاطفها أو متابعتها أو خشيتها من الوضع في سورية، وربما خير دليل على ذلك تمثل في صورة الملاحة الجوية التي انتشرت بعد الزلازل والتي بينت حجم الطائرات المتوجهة إلى تركيا مقابل ندرتها تجاه سورية.
الحقيقة الثالثة التصريحات الدولية المتضمنة وجوب دعم السوريين في مناطق الشمال الغربي، أي المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين، وهي تصريحات خطرة جداً، لأنها تسعى للتمييز بين السوريين من جانب وإبقاء حالة الانقسام بينهم، وتدعو لتجاهل باقي السوريين في مناطق سيطرة الحكومة.
الحقيقة الرابعة تكمن في ردة الفعل العربية الخجولة باستثناء بعض الدول مثل الجزائر والعراق والإمارات وتونس التي سارعت لتقديم المساعدة لسورية، إلا أن باقي الدول العربية يبدو أنها في انتظار توجيهات المايسترو الأميركي، ولعل ذلك هو ما دفع لبنان الشقيق لإرسال وفد عسكري هندسي لتركيا لمساعدتها في انتشار الضحايا واكتفى بالتعاطف مع سورية.
الحقيقة الخامسة تتمثل في الداخل السوري الذي استطاع بتشكيل مسار موازٍ لدور الحكومة في لملمة الجراح السورية وتقديم كل أنواع المساعدة وفق الإمكانات المتوافرة، على الرغم من الحصار المفروض عليه والفساد الذي أرهقه في تأمين أقل متطلبات حياته.
بطبيعة الحال هذه الكارثة تشكل فرصة للجميع في مراجعة حساباته، على مستوى الأفراد والدول والمنظمات، ولاسيما بعد الصور الموجعة والحالات المفجعة التي انتشرت على وسائل الإعلام المختلفة، إذ أكدت الكارثة أن السوريين هم وحدهم القادرون على مساعدة بعضهم، وآن الأوان لحل الأزمة داخلياً من دون السماح بتقسيمهم أو الاستثمار بآلامهم، ومن يدعي حرصه على مصير الشعب السوري واهتمامه بمستقبله يجب عليه رفع العقوبات وتقديم كل أشكال المساعدة الفعلية لا الكلامية والتعاطفية فحسب، فمطارات سورية مفتوحة للقيام بذلك من دون أي ابتزاز أو مساومة، واستمرار الوضع على ما هو عليه سيفجر المزيد من الكوارث والأزمات، وهذه الدول لن تكون بمنأى عنها.