ارتجفت الأرض، قال الإنسان مالها؟ لكنه لم يحتج لوقت طويل ليعرف بأن لا مرد لقضاء الله، بدأ الجميع يستوعب الصدمة لكن أي صدمة تلك أسوأ من سماع استغاثات من نحب وهم يحتضنون فلذات أكبادهم تحت الأنقاض؟! ساعات جعلت الجميع يشعر بأنه بحاجة للجميع، لا تتركوا الوطن وحيداً، اليوم لسنا بحاجة لنرجم بعضنا بعضاً اليوم لا تثريب علينا إن اجتهدنا فأخطأنا، وآهات الموجوعين كانت وحدها تراتيل تخرج الحي من الميت، ابتسامات الأطفال وهم جرحى، كانت كافيةً لتضرب في الأرض فينبثق منها سبع عيون: عين ذكرتنا بأن لهذا الوطن أبناء لن يتوانوا عن كسوة الشمس برداء الانتماء، لم يبخلوا بالروح فكيف لعاقل أن يحسبهم لاهين عن نصرة تلك الأرض الطاهرة؟
عين أعادت إلينا روح النخوة بعد أن كنا قد ظنناها اندثرت بين أنياب التكنولوجيا المتوحشة، تلك المروءة التي يعف فيها من ليس بحاجة، ويتقاسم فيها المحتاج ماء الوجع، لينبت في ثنايا الخراب وردة أمل.
عين بكت من هول الحدث، لم تملك إلا قوت يومها، فتبرعت به، أليس هذا أفضل العطاء؟ هل أتاكم حديث الخالة ابنة سويداء القلب التي تبرعت براتبها التقاعدي؟! هل أتاكم حديث العم الذي يملك رداءً وقميصاً فتبرع بهما لأنه حسب رأيه «لا يزال مستوراً ببيت والحمد لله».
عين أعادت إلينا بعضاً من ذاك الزمن الجميل الذي ظنه ضعاف النفوس لن يعود، فزعة الجبل الأشم وحوران، أظلت وجع الساحل، مياه دجلة والفرات غسلت غبار الكارثة عن حلب وحماة، أما مياه العاصي فحملت وستحمل رسائل لن تنتهي إلى أهلنا في إدلب الخضراء.. لن تكونوا لوحدكم كلنا معكم! لتبقى دمشق الفيحاء هي المركز الذي لا يكتمل تاج الصبر من دونه.
عين أعادت لنا معاني العروبة بعد أن ظنناها أثراً بعد عين، لا هي ليست كذلك، لكن المشكلة ليست في العروبة بل بمن يسيء إليها، حتى لو أن الشذاذ منا سرقوا فعلاً صواع الملك، فظنوا بتجاهلهم هذا أن الزمن لن يدور، لكن مهلاً، على هؤلاء أن يستوعبوا بأن ما حدث في سورية منذ ما قبل لوثة «ربيع الدم العربي» لم يكن أحد ليتوقعه، لم نكن يوماً لنتخيل بأن سورية ستناشد مساعدةً، تذكروا فقط يا من تصمون الآذان بأن الزمن دوار.
عين ذكّرت بأن لهذا الوطن أصدقاء لم يتركوه يسقط في أحلك الظروف، فما بالك عندما يكون الألم بهذا المد الإنساني، شكراً؛ هناك من يرد الدين بالدين لكن مهلاً لا دين بين الإخوة.
عين عرت أولئك المتشدقين برداء الإنسانية، هي العين السابعة، هذا ليس إسقاط لتلك العين التي تصنع فيلماً سينمائياً، نعم ما تسمعونه عن هذه التعرية ليست أحداث فيلم هوليودي بل هي أحداث حقيقية بطلها راعي البقر الأميركي والكومبارس فيها جوقة التطبيل الأوروبية!
منذ بدء الكارثة في سورية وتركيا بدا واضحاً بأن هذا الغرب سيكون في وضع صعب لجهة التعاطي الإنساني مع الحدث، لكن بالوقت ذاته بدا واضحاً بأن سورية أيضاً ستكون أمام مفترق طرق بحيث ستكون الهزة الارتدادية الأخطر لهذا الزلزال هي في السياسة، كما كان متوقعاً حاول الطرف الأميركي كثيراً المراوغة عندما ادعى بأن «قانون قيصر» لا يعوق عمليات الإغاثة، علماً أننا نتحدث هنا عن سباق مع الزمن وضياع دقيقة واحدة تبدو كدهر لإنقاذ الأبرياء، هنا بدأ البعض الاصطياد بالماء العكر عندما أعادوا كلام الأميركي بصورة منمقة ليؤكدوا بأن الحكومة السورية تجعل من «قيصر» ذريعة، هؤلاء ذاتهم صمتوا عندما أعلنت وزارة الخزانة الأميركية تجميد العقوبات لستة أشهر، لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة النص ليقولوا لنا: هل كانت الحكومة السورية فعلياً تستخدم القانون كذريعة؟! لن نغوص كثيراً في البنود لكن لنتحدث فقط عن البند الأبسط وهو تحويل الأموال، هل أدرك البعض اليوم ماذا يعني «قانون قيصر»، أم إنهم يدركون ولكنهم يواربون؟
عندما تولى جون بايدن الرئاسة في البيت الأبيض، هناك من تقدم له باقتراح متعلق بتعديل العقوبات على الحكومة السورية تحديداً ببند تحويل الأموال من الخارج، كان الطرح مبنياً على فرضية السماح للمواطنين السوريين بتلقي حوالات لأغراض عائلية وليست تجارية، بمبالغ بسيطة بشروط معينة، حتى هذا الاقتراح تم رفضه، كانوا يريدون منع أي قطع أجنبي من الدخول إلى سورية حتى ولو لأسباب عائلية، وهناك من يتحدث عن ذريعة؟ هل من عاقل بعد اليوم سيعيد تكرار تلك الحماقات؟!
هذا السقوط الإنساني الأميركي والأوروبي، كان غبياً لدرجة جعلت فيها حتى الكثير من المواطنين السوريين الذين ربما كانوا ينتقدون خيارات القيادة السورية في تحالفاتها يعودون للواقع، يرون من يتاجر بملفهم الإنساني ويبتز حتى مع وجود الأبرياء تحت الأنقاض، لكنه بالوقت ذاته يظهر وكأن هذه المعركة السياسية لا تزال في بدايتها فكيف ذلك؟
مطلع هذا الأسبوع ستكون هناك جلسة لمجلس الأمن بخصوص الوضع في سورية، بل لنكن أكثر دقة على مجلس الأمن تحمل مسؤولياته بما يتعلق بالشأن السوري بما يحمي السيادة السورية وليس كما يريد البعض بتحويل سورية إلى دولة فاشلة على طريقته، هنا تبدو المشكلة الاقتصادية في سورية باتجاهين:
الاتجاه الأول: وهو ضياع ثروات البلد عبر نهبها من المحتل الأميركي، هناك وجهة نظر تقول إن العقوبات الحالية على سورية ليست بجديدة فسورية تعيش دائماً تحت نار العقوبات، لكن الجديد هذه المرة أن الأميركي لم يكرر خطأ الثمانينيات عندما استندت القيادة السورية إلى شعار الاعتماد على الذات بوجود البترول والقمح، فكانت العقوبات تحصيل حاصل، اليوم تبدو المعركة الأهم هي معركة استعادة الثروات المنهوبة، هل يمكن هذا الأمر سياسياً؟ بالتأكيد ممكن لكنه بحاجة لإرادة دولية تجبر المحتل على المغادرة وبحاجة لإرادة عند من رهنوا أنفسهم للمحتل.
الاتجاه الثاني: العقوبات الأميركية والأوروبية، هنا تبدو الحجج السورية المدعومة بمواقف الأصدقاء تحديداً الروس والصينيين كافية لتبديل الكثير من المواقف، هل يجوز بمفهوم المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بقاء العقوبات في ظل وجود كارثة إنسانية ليست ناتجة عن صراع مسلح؟ هل يجوز التعاطي بالعقوبات مع دولة أعلنت منطقتين من ترابها الوطني مناطق منكوبة بسبب كارثة طبيعية؟ بالتأكيد لا، لكنها البصمة الهوليودية في فيلم السقوط الأخلاقي الطويل.
في الخلاصة: تبدو كارثة الزلزال هي كارثة الفرصة الأخيرة بما يتعلق بالملف السوري، فرصة أخيرة لمن لا يريد أن يفهم بعد بأن آخر هم الأميركي هي مصالح الشعب السوري، الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من القانون الدولي، والأهم هي الفرصة الأخيرة لمن لا يزال يراهن على الأميركي، فعليه أن يتذكر بأن أعمال الإغاثة لن تطول كثيراً، لكن لا تزال أمامكم فرصة لمراجعة أنفسكم وحتى ذلك الوقت دعونا ندفن ضحايانا بهدوء، لكننا حكماً لن ننسى من كان معنا ومن غط بثبات اللاموقف.