مثل الزلزال الذي حل بالأراضي السورية فجر السادس من شباط الجاري فاجعة غير مسبوقة منذ قرون، وهي إذ أنعشت في الذاكرة حقائق عدة من نوع «غضب الطبيعة» ومحدودية قدرة الإنسان في مواجهته، أظهرت في مقلب آخر حقائق عدة على ضفاف الصراع السوري الذي مثل منطقة اشتباك عالمية لم تكن مسبوقة هي الأخرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبيل أن يستطيع نظيره الأوكراني الاستئثار بالنجومية، مقرراً بذلك هبوط الأول إلى مصاف «الدرجة الثانية» بكل ما يحمله ذلك الفعل من خفوت للأضواء وقلة المشجعين وانخفاض أسعار «بطاقات الحضور».
أولى هذه الحقائق الأخيرة هو أن الجغرافيا السورية بشقيها، الأرض والبشر، قد أضناها التعب وضنك المعارك وهول الحصار الذي تفاقمت مفاعيله منذ العام 2020 الذي شهد حزيرانه بدء تطبيق «قانون قيصر» ذائع، وسيئ، الصيت، والذي بات وسماً يطبع «الحضارة الغربية» بطابع ليس بجديد عليها، لكنه، أي الوسم السوري، يتخذ طابعاً صارخاً في حالته السورية لجهة الأهداف البعيدة التي يرمي إليها، والذي بتنا نجزم اليوم أنها تهدف إلى تحطيم هذا المشرق العربي انطلاقاً من قلبه السوري الذي شكل على امتداد ما يزيد على 25 قرناً «مفرخة» للحضارات التي راحت تجوب العالم، فتبني على سواحله، وفي سهوله، العديد منها، وفي ذاك نجزم أيضاً أن المستهدف ليس «النظام السوري» كما يحلو لهؤلاء توصيف فعلتهم، بل ذلك النسيج المجتمعي الثقافي الذي ما انفك يبدي استعداداً لترميم الجراح واستعادة دور «قلب العالم» الحضاري الذي يريد هؤلاء اقتلاعه الآن كخطوة في سياق «تغريب» العالم.
ثاني الحقائق هي أن هذا الغرب يتبنى تقسيماً للعالم لا يبتعد في منهجيته، ولربما يستفيد منها، عن تلك التي تتبناها تنظيمات الإسلام السياسي وعلى رأسها تنظيم «القاعدة» الذي قال بتقسيم العالم إلى «فسطاطين» أولاهما «فسطاط الخير» وثانيهما «فسطاط الشر»، والغرب الذي افتضحت منهجيته تلك في محطات عدة، قال بتقسيم العالم إلى شقين الأول متفوق «جينيا» وهو يستحق العيش والبقاء لإتمام «رسالته»، أما الثاني فهو متخلف «جينياً» أيضاً وهو لا يستحق حتى الطمر أو الرثاء إذا ما توافر له الأمر الأول، لكن محطته السورية التي استحضرها الزلزال السوري كانت فاقعة بدرجة لا يدانيها شك، ففي تقرير نشرته وكالة «استوشيتد برس» الأميركية في اليوم التالي لهذا الأخير جاء بالحرف «أن الزلزال الذي أوقع آلاف الضحايا في مناطق مختلفة من سورية لن يغير من موقف الحكومات الأميركية والأوروبية بتجنب التعامل مباشرة مع نظام الرئيس بشار الأسد حتى من أجل إيصال المساعدات الإغاثية»، على الرغم من أن تقارير عدة لهيئات إنسانية وإغاثية غربية كانت قد أكدت على أن «التأخير بالتحرك يتسبب في وقوع المزيد من الضحايا»، وهذا بالتأكيد انتهاك صارخ لروحية «ميثاق الأمم المتحدة» الذي يعتبر أن القوانين التي «تمنع تقديم العون لشعب يمر بحالة خطر تحت أي ذريعة كانت هي مرفوضة وفق ميثاقية الأمم المتحدة»، ولا نستثني هنا «الإعفاء» الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية يوم الخميس الماضي عن هذه السياقات لاعتبارات عدة أبرزها أن الفعل محدود بفترة زمنية قصيرة ما يضع هذا الأخير في سياق حفظ ماء الوجه أمام شارع غربي لا نشك بأنه يمتلك حساً إنسانياً عالياً، بعيداً عن حكوماته وتياراته التي راحت تغوص في تطرفها اليميني.
ثالث الحقائق تقول إن نبض الشعوب العربية لا يزال حياً، وإن محاولات طمره تحت الأنقاض التي خلفها زلزال «الربيع العربي» لم تنجح، فعجلات الطائرات التي وطأت مطارات دمشق وحلب واللاذقية، ومعها النواقل البرية التي عبرت الحدود السورية، كانت تؤكد أن «النفس العربي» ليس في حالة «موت سريري» كما يشاع، وجل ما في الأمر أن الزلزال سابق الذكر كان قد أدخله «طور الكمون» الذي تفرضه درجات الحرارة «ما تحت صفر النمو»، والشاهد هو أن «النفس» عاد نشيطاً بمجرد ارتفاع تلك الدرجات فوق ذلك الصفر، ولا ضير في أن يكون النشاط «دبيباً» بادئ الأمر، فالمهم هنا هو أن الجسد استعاد حركته وهو يلزمه بعض الوقت لكي يتفكك «الصدأ» الذي تراكم على المفاصل حتى باتت حركتها الأولى بطيئة كما هي عليه الآن.
لم تكن سورية على امتداد تاريخها في وضع أصعب من الوضع الذي هي عليه الآن، فالحرب خلال الاثنتي عشرة سنة المترافقة بحصار جائر لم يسبق لدولة، بحجم وقدرات سورية، أن تعرضت له على مر التاريخ، أثقلت من مفاعيل الكارثة التي يجب أن تشكل فرصة لكسر ذلك الحصار، والثابت هو أن ثمة اتصالات عربية- عربية ونظيرة لها عربية- غربية كانت قد بدأت في اليومين اللذين أعقبا الزلزال وهي في مجملها تصب في هذا الاتجاه، ناهيك عن اتصالات مكثفة كانت قد أجرتها الحكومة السورية لإحداث خرق في جدار العقوبات عبر الإعلان عن «الحاجة إلى كل أنواع الدعم» الأمر الذي يتيح للعديد من الدول تلبية نداء دمشق بدوافع إنسانية، وإذا ما توافرت «الإرادة» الغربية الآن فإن من الممكن فتح قنوات إنسانية يمكن من خلالها إدخال المساعدات إلى سورية دون الخشية من «عقوبات قيصر»، الذي يعطي الرئيس الأميركي حق «تخفيف العقوبات غير المقصودة» و«إتاحة أنشطة معينة تصب في مصلحة الولايات المتحدة الوطنية»، ومن الصعب على هذه الأخيرة القول أمام حلفائها الغربيين إن إنقاذ شعب من الكوارث التي لحقت به هو أمر لا يصب في المصلحة الوطنية الأميركية قياساً للشعارات التي ترفعها و«يلوكها» الغرب كله.
ليس من مصلحة الغرب الآن إثبات أن الكاريكاتير الذي نشرته صحيفة «شارلي ايبدو» اليمينية المتطرفة يوم الثلاثاء 7 شباط، وكان التعليق عليه «زلزال في تركيا، لا حاجة لإرسال الدبابات» في إشارة إلى أن الطبيعة قامت بكفاية الغرب شر القتال وإرسال آلات التدمير، نقول لا مصلحة لهذا الغرب أن يثبت بأن «ثقافة» شارلي ايبدو هي التي تتبناها شرائحه وتياراته الفاعلة وصولاً إلى قواه السياسية.