تتوقف عمليات البحث عن أحياء أو مفقودين تحت الأنقاض في الزلزال الذي عصف بسورية العظيمة فخلف كارثة على كل مستوى اقتصادي واجتماعي وبيئي، ولكنه في الوقت نفسه كان صورة تعكس المجتمع.. وتنجلي الصورة شيئاً فشيئاً.. الصورة الأولى التي نحفظها في ذكرياتنا عن الصور الأولى التي كنا نعيشها، تبدو باهتة بعد سواد، وشيئاً فشيئاً تنجلي، ثم يقوم المهني المصوّر بإضافات بقلمه الأسود أو الملون، ليخرج الصورة كما يشتهي هو وصاحبها على حد سواء.
سنوات من الحرب والقتل والرماد، كانت الصورة السوداء التي تخللتها بعض النقاط المضيئة هنا وهناك، وكانت الصورة رهاناً على سورية وحريتها وإنسانها ودولتها، وعلى الرغم من ادعاء الكثيرين إلى اليوم، وفي وسائل الإعلام بأن الهوية الوطنية ليست في حالة جيدة، إلا أن الحرب وتداعياتها أثبتت أن الهوية الوطنية السورية قوية وراسخة، وهذا ما سمح ببقاء وصمود سورية في وجه حرب طاحنة لم ترحم شيئاً، بما في ذلك الكلاب الشاردة..! وجاء الزلزال المدمر في الوقت الأصلي من هذه الحرب، فلم يترك استراحة بين حرب وحرب، ودمار ودمار، وكانت الكلاب تتوجس خيفة وتعطي تحذيرها قبل أن يقع، مع أنها لم تنج من براثن الحرب ومعطياتها ونتائجها، إلا أنها بقيت تستشعر الأرض، وتجوب كل مكان فيها.. جاء الزلزال المدمر في وقت التقاط الأنفاس بعد حرب طاحنة عمياء، كان وقودها أبناء سورية، وأشعلها العالم، واستخدم أعواد ثقاب محلية، في وقت التقاط الأنفاس، وقبل أن تكون جاء هذا الزلزال على جزء كبير من سورية الغالية، وجعل محافظات من سورية بأكملها منكوبة، وتسللت الخيوط المضيئة إلى الصورة قبل أن يتم تظهيرها، ولم تكن الصورة بحاجة لقلم المصور المهني، لأنها كانت زاهية باهية، من خلال صور السوريين البسطاء، السوري البسيط كانت هويته أعلى من الإيديولوجية والمال والموقف، أرأيتم اندفاع البسطاء تجاه إخوانهم؟ أرايتم الحمصي والدمشقي والحوراني والجزراوي؟! أرأيتم اندفاعة الحلبي واللاذقي والطرطوسي والإدلبي والجبلاوي من الذين عصف بهم الزلزال وأبقاهم على قيد الحياة؟ أيام طويلة قضاها السوريون ينقبون عن المفقودين بأصابعهم وأظفارهم في كثير من الأحيان لإنقاذ إنسان تحت الأنقاض، وقد لا يكون لهم في هذه المعمعة أي قريب أو حبيب! أيام قضاها رجل الجيش والشرطة والإطفاء والإسعاف والإنقاذ، وهو يبحث عن الأرواح بين أكوام الدمار دون أن يلتقط أنفاسه ولو للحظة واحدة، فأبرز شهامته وقدرته، وظهرت أمانته وغيريته، أرأيتم إلى المساجد التي تحولت إلى مهمتها الحقيقية في حماية الإنسان ورعايته وإيوائه؟ يمكن أن تؤدي صلاتك في أي مكان وبأي وسيلة، لكن بيوت الله خلقت لتحتوي الإنسان وروحه، وقد عمل كثيرون بصمت مطلق.. أرأيتم إلى الكنائس واستيعابها ونجدتها لتمارس مهمتها الحقيقية بأن الله محبة؟ المسجد والكنيسة معاً كانا ملاذاً لكثير من السوريين دون البحث عن هوية انتماء ديني بقدر البحث عن انتماء وطني..!
أرأيتم الرغيف يقسم نصفين؟ أرأيتم اقتطاع الفقير لجزء مما يملكه لتقديمه للمنكوب في الكارثة؟ وللفقير يفسح جزءاً من حصيرة بيته لضيف؟ تلك هي سورية وصورتها، وهويتها الوطنية، إذ لم يشأ السوري أن ينتظر، وهو يعلم واقع الحال والمأساة بعد حرب على بلده ودولته، ويعلم أن الإمكانيات ليست جيدة، وأن المطلوب فوق الطاقة! إنها الهوية السورية في تكاتف الأيدي للوصول بسورية إلى بر يعبر للأمان.
وليست الهوية الوطنية وحدها، بل الهوية القومية، ورغم محاولات كثيرين على مستوى الوطن العربي الكبير، وعلى مستوى العالم وأصحاب القرار الدولي أن يدفنوا المشاعر القومية والرسالة القومية، والانتماء العروبي، إلا أن هذه الهوية القومية بقيت تحت أنقاض الروح، وعلى الرغم من الخيبات في الحرب على سورية، إلا أن الهوية القومية خرجت من تحت الردم مع الزلزال، أو قبله بقليل، أبو بعده بقليل لتثبت أن العروبة والقومية والأخوة ليست محتضرة ولم ترحل، ولتثبت صوابية ما ذهبت إليه الدولة السورية ببقائها، رغم الألم، على حب وانتماء لهذه الرابطة، وهنا لا يعنينا ما يكتبه هذا أو ذاك على وسائل التواصل غير المسؤولة، والتي لا رقابة عليها، والتي تعبر عن آراء شخصية وآنية لأصحابها ليس أكثر.
استيقاظ الهوية العروبية القومية لدى الشارع العربي في كل مكان، ولدى حكومات عربية لم تتخلف عن نداء القومية والدم العروبي يؤكد بما لا يقبل الشك وحدة المصير والمشاعر والأحاسيس بين شرائح المجتمع العربي كافة.. ويبقى المتخلفون عن ركب الهوية الوطنية والقومية، ومهما كانت أسبابهم في مهب الريح لأنهم خالفوا الفطرة التي فطرنا الله عليها.
كان الزلزال، ومن قبله الحرب امتحاناً قوياً للهوية والانتماء، وها هي الأيام تثبت صوابية الانتماء للهوية، والقوة التي تحملها هذه الهوية من خلال الدم الذي يجري في عروقنا، ولعل زلزلة الساعة والأرض، وما كشفت من تقصير وخيبات وإحساس بالألم أن تكون باعثاً لحياة جديدة لكلتا الهويتين الوطنية والقومية، والفرصة أكثر من مواتية لإعادة ترتيب الأوراق لكل واحد منا، فالحياة تبدأ غداً إن أردنا.