حين تكون الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن أكبر صانع ومصدر للأسلحة في العالم، فإن أحد أهم مصالحها الإستراتيجية هو بيع هذه الأسلحة والمحافظة على زيادة إنتاج الصناعات الحربية منها، ولذلك من الطبيعي أن تعمل واشنطن على ترويج هذه الأسلحة في أوروبا بشكل خاص والعالم بشكل عام، فمنذ التحضيرات التي أعدتها واشنطن وحلف الأطلسي للحرب ضد روسيا بعد عام 2014، والانقلاب الذي فرضته على الحكم الأوكراني وتحرك موسكو لاستعادة جزيرة القرم، تبين من تقرير نشره «مركز استوكهولم لأبحاث السلم الدولي» في 4-11- 2022 بأن النرويج اشترت خلال أعوام 2017-2021 ما نسبته 83 بالمئة من أسلحتها من واشنطن، وكذلك بريطانيا اشترت 77 بالمئة من أسلحتها، وإيطاليا 72 بالمئة، وهولندا 95 بالمئة، واشترت ألمانيا وحدها عام 2022 أسلحة أميركية بقيمة 100 مليار دولار، وذكر موقع ياهو الإلكتروني أن واشنطن حصلت على أكثر من 230 مليار دولار من مبيعات الأسلحة منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط 2022.
على الساحة الآسيوية تعمل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدين على بيع أسلحة لأستراليا ودول أخرى في المحيطين الهندي والهادئ، وهذا سوف يضاعف كثيراً أرباح صناعة أسلحة الموت والدمار الأميركية التي ستظل مرتبطة مع الدول التي تشتري هذه الأسلحة بعقود قطع التبديل وتصدير الذخائر وتحديث القدرات.
في النهاية يبدو أن دولاً أوروبية كبيرة داخل حلف الأطلسي تحولت إلى رهينة بيد سياسة التسليح والحروب الأميركية وكأن واشنطن تبذل كل إمكاناتها لترسيخ هيمنة غير مسبوقة على معظم دول العالم، لأن أي توسع في الحرب على روسيا في أوكرانيا أو في الحرب الأميركية على الصين، ستعده الولايات المتحدة فرصة لأحد خيارين: إما وقوع حرب عالمية تكون فيها معظم الدول مع واشنطن، أو استغلال هذا التوسع لفرض عدد من شروطها مقابل إيقاف الحرب، لكي تستغل ذلك في جني الأرباح من إعادة إعمار وضمان أمن الدول التي ورطتها في هذه الحرب، وبهذه الطريقة تكون واشنطن قد أعادت العالم إلى السياسة التي اتبعتها في أولى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين احتكرت لنفسها كل مشاريع إعادة إعمار أوروبا وخاصة في الدول التي دمرتها الحرب مثل ألمانيا وإيطاليا في ذلك الوقت.
يبين الباحث المتخصص بشؤون التعددية بين أقطاب القوى الكبرى دان شتاينبوك في تحليل نشره في المجلة الإلكترونية «أنتي وور» في 15 شباط الجاري بعنوان «صناعة السلاح الأميركية الرابح الأكبر من تسخير واشنطن لأوكرانيا ضد روسيا»، أن البنك العالمي نشر في أيلول الماضي تقريراً حول الحرب في أوكرانيا جاء فيه أن روسيا تسببت بدمار مباشر لأوكرانيا بقيمة 97 مليار دولاراً وأن هذه الحرب ستكلف أوكرانيا 350 مليار دولار لإعادة الإعمار، وأن الناتج الأوكراني الشامل انخفض بنسبة 35 بالمئة على قاعدة سنوية في الربع الأخير من عام 2022، فما بالك بعد الهجوم الروسي الذي يتوقعه فولوديمير زيلينسكي في هذا الربيع، علماً أن الضرر المادي الذي لحق بالبنية التحتية الأوكرانية حتى شهر تشرين الثاني الماضي بلغت قيمته 127 مليار دولار، وهذا ما يشكل أكثر من 60 بالمئة من الناتج القومي الشامل لأوكرانيا قبل الحرب، وقد بلغ عدد الأوكرانيين الذين أصبحوا خارج مدنهم وبيوتهم أو خارج أوكرانيا يزيد على 17 مليوناً.
ويوضح شتاينبوك أن استغلال واشنطن وعواصم حلف الأطلسي لزيلينسكي ودفعه إلى هذه السياسة الهجومية على روسيا، جعل أوكرانيا تخسر الكثير، في حين كانت قادرة على البقاء كما هي قبل عام 2014 صديقة للجميع من دون أن تدفع هذا الثمن الباهظ الذي زجها الغرب وواشنطن فيه لاستنزاف روسيا التي بقيت في قدرة ردعها أقوى مما سبق، وخاصة بعد مرور عام على الحرب الأميركية الأطلسية على روسيا.
وفي النهاية لن تستطيع واشنطن المحافظة على نظامها العالمي الأحادي القطب ولا على هيمنتها على الساحة العالمية وحين يفرض عليها التفاوض ستفقد جزءاً من أوراقها قبل وبعد التفاوض، لأن أوروبا ستدرك أن حكوماتها قيدت إلى هذه الخسارة بأيد أميركية وسوف تشعر بالندم على هذه النتيجة.