تمر الدول كما البشر بأزمات وكوارث مختلفة، بعضها من صنع الإنسان، والآخر من الطبيعة، وفي كل الأحوال فإن الكوارث والأزمات تفرض على الدول لا بل تلزمها بتحرك سريع لإنقاذ الضحايا، وإعادة الإعمار، والتعافي، وضمن هذا الإطار استخدمت في علوم العلاقات الدولية مصطلحات كثيرة منها: دبلوماسية الإغاثة، دبلوماسية الأوبئة، ودبلوماسية الكوارث، وما يقصد به هنا أن السلوك الدبلوماسي والسياسي الذي يجب اتباعه من الدول في حالات حدوث جلل مفاجئ يجب أن يختلف عن السلوك في الحالات الاعتيادية، وهو مفهوم حديث نسبياً، ولكن سأحاول التركيز عليه لدراسة احتمالات إنتاج مقاربات مختلفة تجاه سورية.
يدرك الجميع في هذا العالم أن الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا، يعتبر من أقوى الزلازل في تاريخ المنطقة منذ قرون، وقد وقع في منطقة تقاطع فوالق، وصدوع انهدامية بين البلدين، وهذه الصدوع والفوالق تمتد ما بين الأناضول والشام، باتجاه العراق وإيران، وصولاً للقوقاز، وباتجاهات أخرى نحو اليونان وقبرص، وبالتالي فإن الاحتمالات المستقبلية لوقوع زلازل تبقى قائمة، وهو ما يفرض مقاربات جديدة للتعاون المستقبلي بين دول المنطقة.
هنا دعوني أقدم خلاصات مهمة أولية:
1- إن الإنسان ضعيف مهما تجبر أمام قدرة الله، وما اعتقده بعض الواهمين في تركيا مثلاً من أن تدمير سورية بقطعان الإرهاب والقتلة، وتمزيق جغرافيتها سوف يخدم مخططات قوى كبرى في العالم، ولكن بالتأكيد ليس مصالح شعوب المنطقة، ولا الشعب التركي، وها هي قدرة الله تجعل هؤلاء يدفعون بـ40 ثانية ما تسببوا به لسورية وشعبها طوال 12 عاماً، أي إن التعاون بين دول الجوار هو الأساس، وليس التآمر في بعضنا بعضاً، هذا درس أول.
2- إن الضحايا الذين سقطوا في سورية وتركيا، والجرحى، والمصابين، آلامهم واحدة، ومشاعرهم واحدة، ودموعهم واحدة، ولذلك فإن أولئك الذين أرادوا تسييس الموت ما هم إلا فاشيون قتلة، وليسوا من طينة البشر، ومن هنا فإن مشاعر المواساة والأسى والحزن واحدة، إذ قتل سوريون كثر في تركيا، اعتقدوا أنهم فرّوا إلى هناك هرباً من الإرهابيين الذين غزوا سورية، وإذ بهم يعودون بالتوابيت ليدفنوا في تراب بلادهم، وفي الوقت نفسه اضطر أتراك أن يلجؤوا إلى خيم سوريين بعد أن ذهبت أملاكهم بسبب الزلزال، وتقدر أوساط أممية أعداد المتضررين بين البلدين بـ25 مليون متضرر بلا مأوى ولا ماء ولا كهرباء، وهذا يفرض بالطبع مقاربات جديدة حكماً.
3- كل الدول معرضة للكوارث الطبيعية، ولكن ما زاد الأمر سوءاً في سورية هو كارثة التدمير الممنهج خلال الحرب، ليأتي الزلزال ليضيف كارثة على أخرى، وفي الوقت نفسه أظهرت الدول الغربية تردداً مشبوهاً في الدعم الإنساني، دفع الرأي العام العالمي، والعديد من المنظمات إلى القول إن هذا يصل إلى «جريمة إبادة جماعية» للسوريين، ما جعل هذا الغرب يتراجع قليلاً أمام حجم التعاطف الكبير مع سورية وشعبها، لا بل دفع أحد الصحفيين الأتراك في صحيفة «آيدنليك» الصديقة إلى عنونة مقاله بـ«إنه كثير جداً من الوحشية والدناءة» كتعبير عن رفض الحصار، وعدم تقديم المساعدات، وبالتالي: تلك الأيام نداولها بين الناس، أي لا أحد فوق قدرة الله، والكل معرض للكوارث.
4- بغضّ النظر عن تقييمنا للواقع العربي، لكن ما من شك أن الشعب العربي، وقواه المدنية، والدول العربية تحركت بشكل سريع لتقديم العون والمساعدة، وهنا لا نلوم أحداً، أي من لم يقدم، ولا يمكن إلا أن نشكر كل الدول العربية التي قدمت، فالمساعدة في وقت الكوارث تعبير عن ضمير إنساني وعروبي، وربما تحول المصاب الذي ضرب سورية إلى مسار جديد لتغيير المقاربات تجاه سورية من خلال دبلوماسية الكوارث التي أشرت إليها، فالزلزال لا يرتبط بالإغاثة المباشرة والسريعة فقط، إنما بالتعافي والاستدامة، ولا أعتقد إلا أن الجميع سيفكر بطريقة مختلفة بالمستقبل.
5- لقد أكد الشعب السوري أصالته ونخوته وتضامنه منقطع النظير، وظهر معدن السوريين الأصلي الذي حاول البعض طوال 12 عاماً تشويهه بوسخ الحرب المذهبية والطائفية والإثنية، التي ثبت أنها لم تؤثر في هذا المعدن والجوهر الأصيل، أما أولئك الذين استمروا بضخ أسطوانات التشكيك والفتنة والتضليل، فليسوا إلا فئة قليلة، وينتمون إلى عصابة الفاشيين القتلة، والمرتزقة الذين لا يعيشون إلا على دماء الآخرين.
ناحية أخرى مهمة: إن أولئك الذين يقبعون في كانتونات تحت أقدام الاحتلال الأميركي، ولا يستطيعون التنفس من دون إذنه، ثبت أنهم عملاء صغار جداً جداً، وخطابهم وزنه صفر، ومشاعرهم متبلدة، ولا ينتمون إلى هذا الشعب العظيم، بل ينتمون إلى مصالح ضيقة جداً تخدم الاحتلال، وهؤلاء تعروا تماماً، أما السوريون الرهائن في إدلب تحت حراب تنظيم القاعدة فهؤلاء ضحايا مرتين، مرة بسبب إرهاب الجولاني، وتنظيمه المتعدد الجنسيات، وما عانوه من تشرد وظلم واضطهاد واتهامات، ومرة أخرى بسبب الزلزال الذي ضرب المنطقة، ورفض الجولاني حتى إدخال المساعدات لهم من دولتهم، الدولة السورية.
هنا أقول للطرفين: إن الجحور التي تجلسون بها لن تفيدكم بالمستقبل القريب، ولستم أكثر من محتجزي رهائن، سنأتي لإنقاذهم، إذ ثبت أنكم عاجزون في كل شيء، إلا الخطابات الفارغة التي انكشفت.
الآن ماذا ستفرض دبلوماسية الكوارث على تركيا أن تتعاطى معه:
1- قضية اللاجئين السوريين، كيف ستحل؟ من دون حديث مباشر مع الحكومة السورية.
2- القضايا الأمنية والعسكرية ستزداد بعد الزلزال أهمية، وهذا يحتاج إلى تنسيق.
3- قضية المياه، إذ عادت الأنهار للجريان بين سورية والعراق، وهذا ملف حياتي مهم لابد من بحثه.
4- قضية المعابر الحدودية، وهل من مصلحة تركيا بقاء «جبهة النصرة» ترتزق منها؟ ثم هل لدى تركيا قدرة على مساعدة المناطق السورية المحتلة؟ ومن هنا فإنه من الأفضل إنهاء دعم الإرهابيين، والتعاون لفتح الحدود بعد سيطرة المؤسسات الحكومية.
5- ثبت أيضاً أن لدى تركيا قدرات محدودة، فهي ليست دولة عظمى، بل دولة إقليمية، وكارثة الزلزال ستفرض تغييرات كبيرة على سياساتها، لأن الأولوية ستكون للداخل، وإعادة الإعمار، وهذا أيضاً يتطلب تعاوناً بين البلدين.
6- لقد أثبتت الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد قدرة على السير بدبلوماسية ذكية ومحنكة تقطع الطريق على بعض الذين أرادوا الاصطياد في الماء العكر، وفي الوقت نفسه تعاملت بعقل الدولة تجاه كل مواطنيها في مسألة الإغاثة والدعم، بينما استمر البعض بالضخ الإعلامي لإبقاء الفالق النفسي والجغرافي الذي تريده قوى الهيمنة أن يستمر بين السوريين، وهذا النجاح للدبلوماسية السورية يسجل لها، ليس لأنها تريد أن تستثمر الكارثة بأهداف سياسية، وإنما لأنها كانت ومازالت تتعاطى كالأم الحنون تجاه جميع أبنائها السوريين.
أخيراً: هذه أفكار سريعة لـ«دبلوماسية الكوارث»، وما تفرضه ليس على تركيا، ولكن أيضاً على الإخوة العرب ودول العالم من مقاربات جديدة ضرورية تجاه سورية، في الكثير من التجارب التاريخية لم تنجح هذه الدبلوماسية في تحقيق نتائج، لكن في حالات أخرى مثل زلزال سومطرة 2004، فقد أبلت بلاءً حسناً.
الأمر لن يسير بسلاسة، ولكن علينا نحن أيضاً الدفع والمساعدة في هذا الاتجاه، وأختم ببيتي الشعر الفلسفيين تجاه إخوتي السوريين:
دواؤك فيكَ وما تبصرُ
ودواؤك منكَ وما تشعرُ