أن تقصف إسرائيل دمشق فيما لا يزال السوريون يعاينون آثار الكارثة الإنسانية التي حلت بهم، وهم يحاولون لملمة المآسي الاجتماعية، وإيواء مئات آلاف الذين تهدمت منازلهم، جراء زلزال مدمر أصابهم، فذلك أقل ما يقال فيه إنه يُصَنَّف في خانة انعدام الحدّ الأدنى من القِيَم الإنسانية والأخلاقية، كيف لا، ومذهب هذا الكيان الإسرائيلي قائم على الإجرام وقتل الأبرياء وتهجير الآمنين واغتصاب الحقوق وتزوير الحقائق؟
العدو الإسرائيلي استغل المأساة التي حلت بسورية بأبشع الطرق الإجرامية، فالعدوان الإسرائيلي الوحشي على مناطق سكنية في دمشق، أتى في وقت والشعب السوري يرزح تحت وطأة حصار قانون قيصر الأميركي الجائر واللاإنساني، والمتسبب في زيادة المآسي، خصوصاً أن الإدارة الأميركية منعت الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية والإغاثية، من تقديم أي مساعدات عينية أو طبية أو دوائية إلى الشعب السوري المنهك، حارمة بذلك الدولة من الحصول على المعدات اللوجيستية والطبية اللازمة والتي تسهم في انتشال الضحايا وإسعاف المصابين وإيواء المشردين بالسرعة المطلوبة، الأمر الذي أظهر أجهزة الدولة السورية في حالة عجز أمام هول الكارثة التي خلفها الزلزال المدمر.
إن قيام الكيان الصهيوني بهذا العدوان على دمشق، بالتزامن مع استعادة تنظيم داعش نشاطه الإرهابي على الأراضي السورية، وإقدامه على قتل الأبرياء في منطقة السخنة، يظهر الترابط والتنسيق العميق بين كيانين إرهابيين، ويظهر أنهما يحاولان تشديد آلام الشعب وزعزعة تماسك المجتمع السوري، كما يثبت بالدليل القاطع أن إسرائيل وداعش وجهان لإرهاب واحد.
ترويج إذاعة العدو الإسرائيلي بأن الهدف من قصف منطقة كفرسوسة في دمشق وإيهام الرأي العام باغتيال مسؤول رفيع في الحرس الثوري الإيراني، هو إعلان بمنزلة الهروب للأمام، ويهدف إلى صرف الأنظار عن حالة الوهن والتخبط وعدم الاستقرار الأمني والسياسي الداخلي الذي يعيشه الكيان الصهيوني، حتى بعد تأليف الحكومة الأخيرة برئاسة بنيامين نتنياهو، العائد إلى الحكم بعد خمس جولات انتخابية، وخصوصاً أن تل ابيب تشهد منذ مدة حركات احتجاجية واسعة ويوميةً تعبيراً عن رفض عارم لإجراءات حكومة نتنياهو.
إن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عجزت عن إيجاد الانسجام بين مكوّناتها، في ظل تعدّد الائتلافات مع التنظيمات المتدينة منها وخاصة والمتطرفة، الأمر الذي أسهم في تصدع بنية المجتمع الصهيوني حتى في داخل جسم الكابينيت، وبات عاملاً مهدداً لاستمرار أي حكومة فيها ذاك النوع من الائتلافات.
لأول مرة ومنذ قيام الكيان الصهيوني عام 1948، يمثل الانقسام الحاصل في المجتمع الإسرائيلي تهديداً داخلياً جدياً، ينذر بعواقب تفكك وانفراط فكرة نشوء «دولة إسرائيل»، خصوصاً إذا ما لاحظنا المتغيرات الأخيرة التي أحدثت تحولاً جذرياً في الرؤى بين القادة السياسيين منهم والعسكريين، ومع هذا التحول اضمحلت الديمقراطية في المجتمع الإسرائيلي مع تعاظم نفوذ وتأثير الأحزاب الدينية، بشقيها المتطرف والأقل تطرفاً، على الحياة السياسية ومراكز القرار أيضاً.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة لكلام قاله مسؤولون إسرائيليون سياسيون وأمنيون في الأشهر الأخيرة، حذروا فيه من النتائج الوخيمة جراء الشرخ الحاصل داخل المنظومة السياسية في إسرائيل، وحتى العسكرية على وجه الخصوص.
رئيس وزراء الكيان الحالي نتنياهو، وفي عام 2017، ألقى محاضرة أمام كبار الضباط والسياسيين في معهد البحوث الإسرائيلي قال فيه وبالحرف: «سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمناً، وليست بديهية، فالتاريخ يعلّمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة».
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، وفي العام 2022 قال: باعتقادي إننا نعيش «اللحظة المصيرية، ويجب الانتباه إلى أن إسرائيل سبق لها أن تفككت مرتين بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عاماً، ثم تفككت مرة ثانية حين بلغت 80 عاماً، وها نحن الآن نعيش حقبتنا الثالثة، مع اقتراب إسرائيل من العقد الثامن، ولذلك أرى أن إسرائيل قد وصلت إلى واحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق».
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، عبّر في مقال في صحيفة «يديعوت أحرنوت»، عن مخاوفه من «قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها»، مستشهداً بالتاريخ اليهودي، ولافتاً إلى أن «تجربة إسرائيل الصهيونية الحالية هي الثالثة، وهي على وشك دخول عقدها التاسع»، مبدياً خشيته من أن «تنزل بها لعنة 80 كما نزلت بسابقتها».
وفي عودةً إلى التاريخ، فإن إسرائيل تعاني من «لعنة العقد الثامن»، إذ لم تعمّر لأكثر من ثمانين عاماً باستثناء مرّتين، الأولى كانت مملكة داوود وسليمان، والثانية هي مملكة الحشمونائيم، وفي المرّتين اللتين اجتازت فيهما حافة الثمانين عاماً، بدأ التفكّك والاهتراء يصيبان إسرائيل بسبب الخلافات والانقسام والاقتتال الداخلي بين الإسرائيليين أنفسهم، وهو السبب الرئيس الذي أدى إلى انهيار المملكتين، ما يُشير إلى أن انهيار الكيانات الصهيونية سببه كان داخلياً، وليس خارجياً.
لا بد من التطرّق إلى مقال للكاتب ياكوف كاتز في صحيفة «جيروزالم بوست»، الذي رأى فيه، أن ثمّة خطراً حقيقياً يهدّد وحدة إسرائيل، الأمر الذي قد يدفع البلاد باتجاه حرب أهلية، وفي فترة زمنية قريبة، كما لفت الكاتب إلى إمكانية انفجار الوضع الداخلي في إسرائيل وفي أي لحظة.
وفي المقال نفسه يقول الكاتب: «اعتقدنا أن استقراراً كان مرتقباً أن يسود في إسرائيل، عقب نجاح إجراء الانتخابات وتشكيل الحكومة، لكن حقيقة الواقع أثبتت أن اعتقادنا ليس في مكانه، لأن نفوذ المعارضة والأحزاب الدينية المتطرفة آخذ بالصعود، وظروف الانقسام لا تختفي بين ليلة وضحاها، بل إن ما يحصل في إسرائيل يشير إلى توتر طويل وانقســام عمودي، ستعاني منه إسرائيل، أقله للأعوام الخمسة القادمة، وهو المفترض العمر المتبقي لإسرائيل».
«من يحكم إسرائيل؟» بهذا السؤال توجه وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو، إيتمار بن غفير، إلى أعضاء الكابينيت، في إشارة واضحة إلى حجم الصراع الدائر بين حركات التطرف والتديّن وبين أصحاب النفوذ والمال والفساد وبين المؤسسة العسكرية، الأمر الذي يشير إلى جدية الخطر بانفراط عقد المجتمع الإسرائيلي من الداخل، وافتقاد إسرائيل توازنها وهيبتها التي تغنت بها لعقود سبعة متتالية، وإذا أضفنا حركة هجرة الصهاينة المعاكسة إلى خارج إسرائيل، نتيجة تصاعد انتفاضة العمليات الفلسطينية، يتأكد لنا أن الكيان قد بدأ يفقد ركائز وجوده من الداخل، وأنه لم يعد من شك بأن إسرائيل ستصاب بزلزال العقد الثامن الذي سيطيح بها للمرة الثالثة وللأبد.