ثقافة وفن

البعد الروحي للمسيحيّة والإسلام في السينما … «رسالة العقاد» و«آلام المسيح» أنموذج

| عامر فؤاد عامر

يوثّق العمل السينمائي النشاط البشري وآثاره، وهو أحد أهم الأوجه التي يفيدنا بها، لكن عندما يتّجه العمل السينمائي للمسألة الروحيّة التي تضع الإنسان على المحك، ولاسيما في المنافسة بين الشرق والغرب، فهنا تبدو الخطوة أكثر غنىً بالمقارنة والملاحظة. وعندما نسلّط الضوء على الدّين وهو أحدى البوابات الروحيّة التي يتعلّق بها الإنسان أكثر؛ لكون مسألة ولادته في إطارها لا تأتي بالاختيار غالباً، فهنا يكون شكل الالتزام أعلى، ويبقى للقائم على العمل رؤية أكثر اهتماماً على اعتبار أن الدّين الذي ينتمي إليه هو الأفضل بين كلّ الدّيانات.

هما الأهمّ
لدى اختيارنا في عالم السينما لأهمّ الأفلام التي جسّدت حياة رسولي المحبّة والهداية، لا يمكننا الابتعاد كثيراً عن فيلم «الرسالة» للمخرج السوري «مصطفى العقاد»، وفيلم «آلام المسيح» من إخراج «ميل غيبسون». والجميع يعترف بالعالميّة التي صبغت مسيرة المرحوم «العقاد» فكانت درّة أعماله فيلم «الرسالة» ضمن سلسلة الأعمال التي أنجزها وشارك فيها، هذا الفيلم الذي حمل نسختين واحدة بالعربيّة وأخرى بالإنكليزيّة، يعدّ العمل المتكامل حتى يومنا هذا في توضيح قصّة الإسلام، وكيف كانت البداية ورحلة الدعوة والانتشار، فقد قدّمه بالصيغة التي تليق به وتتجه نحو مخاطبة العقل، والروح، معاً، في منطق سينمائي جدير بالاحترام من أي عامل في الحقل السينمائي العالمي.

صوت إيجابي
لا نعمل الآن على حالة التقييم المهنيّة التي يتصف بها الفيلم، لكن الملاحظة التي أردناها من هذا التوصيف هي أن الاجتهاد في عدم التخلّي عن شيء يخصّنا أو مبدأ تربيّنا عليه، لا بدّ أن يوجّه للطرف المضادّ أو المقابل أو المنافس لنا، بما يليق ومن دون أن ينفُرَ منّا أو يعارضنا، وبتوضيح آخر ما قُدّم في فيلم الرسالة لم يتجه نحو الصورة المنفرة التي تجعل من المتلقي يهجره ويعاديه، بل يلتزم بالمتابعة حتى النهاية، ويعطي صوتاً إيجابياً في نهاية المطاف. إذا الفيلم كان المحاولة الأهمّ في تقديم الإسلام نفسه للغريب ليحظى بالإعجاب والتقدير والرضا.

على المحك
الانتباه للمبادئ هو الملاحظة التي يجب علينا فهمها وإدراكها اليوم حتى يفهمنا الآخر بصورة سليمة لا تدعوه للتشكيك بنا، وخاصّة بعد هجرة الكُثر من أبنائنا نحو مجتمعات جديدة لم يألفوها من قبل، وهنا نحن على المحك إمّا أن نصطبغ بهم ونتخلى عمّا نمتلكه من مواصفات لنقدم نتيجة الهجين والشكل الجديد، أو أن نقدّم أنفسنا بصورة حقيقيّة لا تبعدنا عن المبادئ والأخلاقيّات التي ارتبطنا وجبلنا عليها، وهذا ما نعنيه في عمل «الرسالة» للعقاد.

صدمة
السؤال المطروح هنا لماذا لم تنجح تجربة أخرى في عالم السينما كما نجح العقاد؟! لماذا لم تتكرر خطوة إنتاج فيلم يروي سيرة الرسول من وجهة نظر سينمائيّة جديدة محترمة ومحترفة؟! لماذا لا ننطلق مع الزمن بأدواته المتطورة لنروي عن أنفسنا في الجانب الديني كما يروي الآخر عن نفسه؟! وهنا ننظر للجانب الآخر وفي أهم المحاولات السينمائيّة التي صدمت المتلقي في المشاهدة ووثّقت حقائق كانت على مدى مئات السنين مخبّأة ويعمل الآخرون على دفنها وقتل أفكارها رويداً رويداً، وهنا نقصد بالشرح هذا فيلم «آلام المسيح» من إخراج الفنان «ميل غيبسون» الذي صدم بعمله هذا ملايين البشر، فبعد أن تواترت الأعمال السينمائيّة في طرح الفكرة نفسها واجترارها، ولكن مع تغييرات بسيطة لا تتعدى أماكن التصوير والممثلين، مع اعتماد رواية متشابهة ومتكررة، جاء «غيبسون» ليروي لنا حكاية مؤلمة متّجهاً نحو الصورة الأقرب للرواية الحقيقيّة في المسيحيّة ورسولها.
مواصفات

حتى يتحول العمل إلى صفة عالميّة بديمومةّ نصفه بها بأنّه أيقونة لا بدّ أن تسيطر عليه صفتان أثناء شغله، وهي الصّدق والحبّ في إنجازه، والصدق بمعنى الاتكال على حقائق يتفق عليها محققو التاريخ ويضعها رواد التأريخ كحقائق لا يمكن المواربة فيها إضافة للصدق أثناء تأدية الوثائق التاريخيّة تلك في تحويلها إلى وثائق سينمائيّة، وليس البحث عن صورة ملفقة نزوّر فيها للناس ما يمكن لهم أن يروه عنا. أمّا في الحبّ الذي نعنيه، ليتصف العمل به نحو العالميّة، فهنا نعود للفكرة أعلاه بأن المبادئ التي تربى عليها الشخص لا بدّ أن تقدم بما يليق ومن دون أن تحمل حالة من التطرف أو الأنانيّة بمعنى أنا ومن بعدي الطوفان، فهنا ينفي المبدأ ذاته إن اتصف بذلك، فالتطرف لا يؤدي بنا إلا إلى الانحلال, فالوصف السليم لأنفسنا في عدم التعلق وعدم التخلي عن المبدأ هو الاتجاه الصحيح وهو الاتجاه النافع وهذا ما نلاحظه في فيلم الرسالة في العمل وقد لا نلمسه في فيلم آلام المسيح إذا ما اجتزأناه عن سلسلة الأفلام التي روت قصّة المسيح «عليه السلام».

مفارقات
ففي الرسالة صورة عامة تروي القصة من أحداث ما قبل البداية وإلى لحظة انتشار الدين الإسلامي لكلّ أصقاع الأرض، مروراً بالكثير من الأسماء المهمّة والمؤثرة في حياة النبي «محمد» عليه الصلاة والسلام، والمؤثرة في مسيرة الإسلام كلها، في حين في فيلم «آلام المسيح» كان التركيز أكثر على لحظات الألم التي عانى منها «المسيح» عليه السلام، قبل ارتقاء روحه، فكان الوصف المركز للحظات ما قبل الوفاة هو الهدف من أجل تبيان حقائق كانت مخفيّة على الأغلبية العظمى من الناس، ومن هنا جاءت خصوصيّة الفيلم أكثر وبالتالي يحمل هذا الفيلم في جانب من جوانبه تزمتاً نحو فكرة أكثر من غيرها، ولربما هو العتبة أو التمهيد لرواية فيلم مستقبلي أكثر تكاملاً عن سيرة المسيح والمسيحيّة.
إخفاقات

بالمقارنة بين الفيلمين فقد أخفق فيلم الرسالة لمصطفى العقاد في التركيز على صورة واضحة ومحددة المعالم للنبي نفسه عليه السلام، وهي ليست بالغلطة أو المشكلة لكنها في مفهوم القيمة الإبداعيّة تعدّ كذلك، ولا بدّ مستقبلاً من ولادة فيلم يخطف الأضواء في هذه الناحية من حيث تجسيد حقيقي أكثر لمعالم النبي البدنيّة وليست في الصوت فحسب.
وذلك على نفي السبب من حيث إن الإسلام ينافي الصورة ويحاسب على الصنم، فعندما نتأمل الزخرفات المرسومة في أهم مساجد الإسلام وقصوره سنلاحظ نفياً عميقاً لفكرة محاربة الصورة تلك، ومن يبحث في قصور الأندلس يعلم أهمية التماثيل واللوحات الإسلاميّة، بالتالي لا تطرف في الفكرة على المستوى الذي يُطرح سابقاً. أمّا فيلم آلام المسيح لغيبسون فقد كان مقطعاً زمنياً يحمل قصداً مباشراً يُسلط الضوء فيه على ناحية دون غيرها ألا وهي العذاب الذي تعرض له السيد المسيح عليه السلام وتفاصيل الإهانات الجسديّة والنفسية التي تقبلها بما يفوق قدرات البشر مرات ومرات، تاركاً التفاصيل الأخرى والحقائق المرتبطة ببداية الدعوة المسيحية وبانطلاقها نحو العالم.

استشراف
كانت هذه نظرة مقتضبة في عملين يعدان الأبرز بين الأعمال السينمائيّة التي حاكت الإسلام والمسيحيّة في جوانب تهم الإنسان وتجعله أكثر تفكراً في معتقداته، لكنها أمثلة جيدة في مواصلة الإنسان مع ما تربى عليه، وفي جانب آخر وبصورة أكثر صراحة:
المغالاة في المبدأ هي نفسها ما ينفيه ويلغيه مع مرور الوقت، وكما يشير الباحث التاريخي «سهيل زكار»: «قد تتكرر ولادة أندلس جديدة في بلاد الغرب اليوم مع متابعة الهجرات الكبيرة التي انطلقت من سورية وذلك في حال عبرنا عن مبادئنا بصورة سليمة لا مغالاة فيها في التطرف الديني».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن