وجد «أبو محمد الجولاني»، زعيم «هيئة تحرير الشام»، واجهة «جبهة النصرة»، نفسه يوم الـ11 من آب الماضي، الذي شهد إطلاق أول إشارة تركية «إيجابية» تجاه دمشق، أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، الأول أن يذهب إلى ركب موجة التوجه التركي الجديد، فيما الثاني يقضي بمعارضة ذلك التوجه بكل ما يفرضه الخياران السابقان من حمولات ستكون ثقيلة الوطأة سواء أكان على موقعه الداخلي، أي داخل الفصائل التي يتزعمها، أم كان على «إمارته» التي يحرص على تدعيمها بشكل مضطرد، وفي المعايرة كان الخيار الأول سيؤدي بالضرورة إلى زعزعة زعامته داخل نسيج متطرف وهو يضم عناصر وفصائل من «الجهادية» الإسلامية التي تؤمن بشمولية العمل و«تكفر» بالحدود الراسمة للدول أو حتى للكيانات، على حين أن الخيار الثاني كان سيؤدي إلى خسارة الدعم التركي بشتى صنوفه ناهيك عن أن التركيبة التي يحكم من خلالها كافية لجعل هذا الخيار انتحارياً وفق معطيات عديدة، ومن هنا يمكن القول إن صيف العام الماضي، وخريفه، مرا على «الجولاني» كما الكابوس أو العاصفة التي تهدد بذور ما جمعته الرياح خلال السنين الخمس الماضية.
على خلاف الصيف والخريف الماضيين بدا الشتاء «الجولاني» مبشراً، وهو من دون أدنى شك تلمس خيراً في «شروط» دمشق التي أطلقتها بوجه أنقرة، إذا ما أرادت الأخيرة تطبيعاً يطوي صفحة «دزينة» من السنوات التي كان وسمها الأبرز هو السواد، وكان التقدير أن تلك «الشروط» من شأنها أن تبعد، ولو بشكل مؤقت، «الكابوس»، الذي سيجد «الجولاني» نفسه أمامه فارضاً عليه حسم خياريه اللذين سيكونان متنافسين في قدرتهما على صب المزيد من المرار في الحلقوم، لكن خواتيم الشتاء جاءت بـ«بشائر» أوزن من النوع الذي يمكن الرهان عليه لبناء خيارات جديدة وخصوصاً أن تلك «البشائر» كانت تؤذن بأن «الصخرة البازلتية» التركية المتوضعة على صدره، سوف تتحول بعد الآن إلى صخرة من «الخفان» الخفيف الوزن، مما يمكن تحمله والتعايش معه، بل تنعش الآمال بإمكان تكسيرها، ومما يعزز هذا الآمال الأخيرة هو الآفاق التي فتحتها «بشائر» خواتيم الشتاء في شتى الاتجاهات.
كانت السلوكيات الأولى التي مارسها «الجولاني» في الساعات الـ48 التي أعقبت زلزال 6 شباط، تشي بأن الأخير كان قد قرأ الحدث على أن «القدر» قد وقف في صفه بعد أن تثاقلت الضغوط عليه بصورة تبشر بإمكان وصولها إلى وضعية غير قابلة للاحتمال، ولذا رأيناه يذهب، بعيد الساعات الأولى التي تلت ذلك الحدث، للاستثمار فيه، فزيارة المناطق المتضررة في الشمال تمثل رسالة هدفها «خطب ود» أولئك الذين لا يزالون يضعونه على لوائح إرهابهم، ومحاولة لإقناع هؤلاء بأن رفع اسمه وتنظيمه، عن تلك اللوائح بات أمراً ملحاً قياساً للخطوات «الإنسانية» التي ما زال يعمل على تظهيرها كلما سنحت الظروف بذلك، أما قراره القاضي بمنع إدخال المساعدات الدولية إلى مناطق سيطرته إلا عبر معبر «باب الهوى» الحدودي مع تركيا، فهو يضعه في موضع «مقاول متمرس» يمهد الطريق لنفسه للاستثمار في الزلزال بطرق ووسائل شتى، فمن جهة يريد «الجولاني» أن يظهر بمظهر «الوكيل الحصري» للمساعدات التي ستصل إلى مناطق الشمال السوري المنكوبة، وهذا بالتأكيد يعزز من «زعامته» ويزيل عنها العديد من الشروخ التي تزايدت قبل نحو أعوام بفعل التناحر الحاصل ما بين فصائله المنضوية تحت رايته والذي كانت له أسبابه المتعددة، وفي مقلب آخر يمكن لتلك «الوكالة» أن تمنحة دور «بيدق» أو «حصان» على رقعة الشطرنج الدولية التي ستعمل الآن من خلال تعاطيها مع الحدث على اقتحام «القلاع» التي استعصت على الفعل من خلال الفعلين العسكري والسياسي، ثم في مقلب ثالث مهم يريد «الجولاني»، من فعلته تلك الأخيرة، أن يثبت لواشنطن موقفاً مفاده التالي: على الرغم من أن «الظروف» لم تسمح بتلاقيات كبرى معها، مما هدفت له لقاءات تمثل الطرفين، لتعقيدات لم يكن من السهل تجاوزها، فإنه لا يزال «وفياً» للنهج الأميركي الرامي لخنق الحكومة والدولة السوريين، وهو سيظل «وفياً» لذلك النهج ولو أضحى الفاعل الوحيد.
في سلسلة اجتماعات عقدها «الجولاني» في غضون الأيام الثلاثة التي تلت الزلزال، طرح الأخير أمام قادة الصف في الفصائل الموالية له، وفق ما نشره موقع «شبكة المحرر نيوز» إمكان أن يصبح خيار «القيام بعمليات ضد جنود وضباط أتراك عاملين في الشمال السوري خياراً واقعياً»، والقول الذي قال الموقع إنه نقله عن مصادر مقربة من تلك الاجتماعات، يعني أن الحدث – الزلزال، قد أثار شهية الجولاني التوسعية وهو بات مقتنعاً بإمكان ضم مناطق في الشمال والشرق من إدلب من جهة، ويعني من جهة أخرى، أن «الجولاني» يرى الآن إمكان دق إسفين بين موسكو وأنقرة من شأنه أن يدفع بالأخيرة للتنصل من الوعود التي أعطتها للأولى منذ آذار 2020، والتي قد تجد أنقرة نفسها مضطرة للوفاء بها بعيد انخراطها في الخيار الروسي الرامي لإحداث تقارب تركي سوري سيكون ذا تداعيات مهمة على مسار التسوية السياسية للأزمة السورية فيما لو حصل، والجدير ذكره هنا أن أهم تلك الوعود كانت تقول بتفكيك التنظيمات الإرهابية الواقعة في مناطق سيطرة الجيش التركي وأن العمل سيصبح قيد التنفيذ بعيد سريان مفعول الاتفاق الذي شهده هذا التاريخ الأخير.
باختصار يرى «الجولاني» نفسه الآن، بعد 6 شباط، أنه في موقع أقوى، وهو أقدر على مواجهة الضغوط التي سوف تتلاشى على وقع هذا الحدث الأخير، لكن الفعلين آنيان وبمعنى آخر أن أمدهما لن يطول، فسياسات الدول لا تبنى على الوقائع، وإنما تبنى على المصالح وحقائق القوة القادرة على فرض هذه الأخيرة.