قضايا وآراء

عن التقارب السعودي السوري وآفاقه

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن عادت الحرارة للأسلاك الواصلة ما بين دمشق وأبوظبي، أقله بشكل واضح منذ نحو عامين، لم تكن تلك العودة ببعيدة عن الأنظار السعودية التي راحت ترقب تردداتها بأدق تفاصيلها لكن مع احتفاظ الرياض ببرودتها المعهودة التي كثيراً ما تعتري السياسات السعودية عند التحولات والمنعطفات التي يصح القول فيها إن الرياض تحب عبور هذي الأخيرة بأدنى درجات السرعة التي تضمن انكشاف المنعطف تماما، أو هي تحول دون حدوث مفاجآت، الفعل الذي كثيراً ما كانت تتحاشاه السياسة السعودية على امتداد المراحل التي عرفت بها منذ الإعلان عن قيام مملكتها العام 1932 لاعتبارات لها علاقة بطريقة التكوين، وعلاقة أيضاً بطبيعة التحالفات التي أرست دعائم واستقرار الحكم فيها والتي كانت لها حمولاتها على تلك السياسات فباتت مرتبطة بحركة المسننات التي تخرج عن ذينك المحورين بتناغم بدا كأنه يشكل السهم الراسم لخطوط السياسات الكبرى.

من الصعب القول إن التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان يوم السبت 18 شباط الجاري من على منبر مهم هو «منتدى الأمن بميونخ» الذي تحولت طبعته لهذا العام إلى منصة غربية خالصة للتحريض والتعبئة ضد «كل ما هو غير غربي» حتى باتت، تلك الطبعة، أشبه بإطار سياسي خاضع تماماً لمحاور الإستراتيجية الأميركية العليا التي تريد واشنطن انتهاجها ضد هؤلاء، نقول من الصعب القول إن تلك التصريحات تندرج، فحسب، في السياق الذي جاءت فيه تعابيرها، فالمنبر كان كفيلاً بإعطائها قيمة مضافة تزيد من أهمية تلك التصريحات التي أطلقها الفرحان والتي يصح توصيفها بأنها كانت المحاولة السعودية الأولى، بعد تصويت «اوبك بلس» يوم 5 تشرين الأول الماضي، لجهة اتخاذ الرياض مسافة ما بين سياساتها وبين «الإملاءات» الأميركية، وإن كانت الثانية بدرجة أخف من الأولى.

قال الفرحان «سترون أن إجماعاً يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي على أن الوضع في سورية غير قابل للاستمرار»، قبيل أن يذهب للقول «لا بديل من الحوار مع دمشق، في وقت ما، بما يسمح بتحقيق الأهداف الأكثر أهمية وخاصة في ما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين».

ثمة ملمح براغماتي واضح، وإن كان يعتد بجانب إنساني مفيد، يمكن تلمسه في تصريحات الفرحان الآنفة الذكر، وذلك الملمح، يبين من خلال الحذر الذي راحت الرياض تبديه تجاه التقارب السوري التركي الذي يمكن له، فيما لو تواتر بشكل أسرع، أن يزيد من الاستقطاب الحاصل تجاه الأزمة السورية فيدخلها في مرحلة جديدة سوف تفعل فعلها، إذا ما استمرت الحال هكذا، لجهة إضعاف تأثير دائرة الفعل العربي فيها هذا إن لم تصبح معدومة التأثير بفعل التجاذب التركي الإيراني، ولذاك مفاعيل شديدة الأهمية على التوازنات الإقليمية القائمة والتي أثبتت أحداث الأزمة 2011 – 2023 أن الجغرافيا السورية هي نقطة ارتكاز كبرى فيها، وهي يمكن أن تلعب دور «المسبار» الذي يشير إلى تثقيل جناح إقليمي على آخر تماماً كما كان لبنان زمن أزمته 1975-1990.

أهم ما يميز الطرق السعودي الجديد لأبواب دمشق هو أن الدبلوماسية السعودية تبدو قادرة الآن على الفصل ما بين المرامي البعيدة وتلك القصيرة المدى، التي يمثلها هنا الجانب الإنساني الذي إن تعالت درجاته فلسوف يدخل هذا الفعل الأخير بحسابات سياسية قد يتخللها طرح المخاوف التي تندرج في سياقات المرامي السابقة الذكر، وفي إيضاح للصورة، لا نجد بديلاً من التطرق إليه، يمكن الجزم بأن الرياض اليوم لا تبدو مهتمة بـ«الهاجس» الإيراني الذي لطالما وضعته على رأس العوائق أمام استعادة دمشق لمحيطها العربي منذ طرح المبادرات الأولى التي قادتها الجزائر قبل نحو عامين، والفعل، أي الطرق السعودي الجديد بمقاربته الآنفة الذكر، يعطي الدبلوماسية السعودية ميزة «المثابرة» الكفيلة بتقديم طروحات تتساوق مع المعطيات على الأرض، وهي لا تتجاوز التراكمات التي خلفتها «الانكفاءة» العربية عن دمشق لمدى يزيد على «دزينة» من السنين.

من مصلحة دمشق الآن عودتها إلى محيطها العربي، تماماً كما من مصلحة هذا الأخير العودة إلى الأولى، بل إن المصلحة السورية العليا الآن تكمن في وجوب تعويم الملفات التوافقية مع ذلك المحيط تزامناً مع تأجيل الشائك منها، خصوصاً أن إعادة التشبيك يمر، ولا شك، بمرحلة هلامية تحتاج إلى معالجات فائقة الحساسية من النوع الذي تجيد الدبلوماسية السورية العريقة إتقانه، والأهم من ذلك كله أن الظروف تبدو كأنها استكملت شروطها للسير في ذلك الطريق وصولاً إلى استعادة سورية لتوازنها الشديد الأهمية لإرساء التوازن على امتداد المنطقة العربية برمتها، وفيما يخص «الخشية» من أن يثير ذلك المسار «قلقاً» على ضفاف حلفاء الدعم والإسناد، نقول إن هؤلاء يدركون جيداً أهمية الدائرة العربية في استقرار الكيان العربي دون أن يعني ذلك لا أهمية الدوائر الأخرى التي يمثلون هم نقاطها الاستنادية الكبرى، فنحن في النهاية مرتهنون لحقائق الجغرافيا وتراكمات التاريخ التي تشكل أساس الهوية والانتماء بالنسبة لنا، كشعب ودولة وكيان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن