ثقافة وفن

فاتح المدرس استعداد لتقبّل النقد الجاد «6» … تفصيل صغير يأخذ فاتح مدرس والآخرون ينشغلون بموضوعات أخرى … جدران مرسمه تمتلئ بالأوراق والعبارات الشعرية والأوراق والعبارات الشعرية والأدبية

| سعد القاسم

في كلية الفنون الجميلة بشارع بغداد كان يطيب لفاتح المدرس أن يجلس وراء الواجهة الزجاجية الكبيرة لمقصفها مستمتعاً بشمس الشتاء وبالأحاديث التي تدور بينه وبين طلابه حول مواضيع الفن والثقافة والحياة، وصادف أنه في أثناء إقامة معرض متألق له أن نشر طالب قليل الشأن مقالة صحفية تنضح بهجوم جاهل وكريه على المعرض، وعلى تجربة أستاذه برمتها، يومها خشينا من ردة فعل تطيح بجمال الجلسة الصباحية في الشمس الدافئة، غير أن تعبير وجه المعلم لم يكن مختلفاً حتى اعتقدنا أنه لم يعلم بأمر المقالة الرديئة، ودهشنا حين عرفنا أنه قد قرأها..! ودهشنا أكثر حين برر فعل كاتبها بالقول: «مسكين يريد أن يلفت الانتباه إليه»!

الترفع عن السطحية

لم يكن ما قاله مجرد تعليق ذكي وإنما موقف حقيقي يليق بفنان كبير. فلم يتخذ أي موقف سلبي من الطالب على امتداد سنوات دراسته في الكلية. كان فاتح المدرس بمقدار ما هو على استعداد لتقبل النقد الجاد، على استعداد مماثل للترفع عن أي كتابات سطحية وضحلة. وفي بعض الحالات الرد بقسوة، أو سخرية حادة، خاصة حين يتنطع أحدهم للحديث فيما لا علم له فيه.

في الفترة ذاتها كانت له زاوية يومية طريفة في صحيفة (تشرين) يحلل من خلالها تواقيع القراء. تحفّظ بعض المثقفين على هذا، ورأى بعضهم الآخر فيه جزءاً من خصوصية فاتح وطرافة سلوكه. أما نحن طلابه المؤمنين به فكنا نبحث عن تفسير منه وكنا سنقبله أياً كان. وفي أحد صباحات مقصف الكلية تحلقنا حوله، نسأله الجواب، فحدثنا عن العلاقة بين خط الإنسان وسلوكه ومشاعره وطريقة تفكيره، فلما سألناه عن وجه الإنسان قال أنه كتاب مفتوح.

تأمل والتقاط

في شرفة المبنى خلف الواجهة الزجاجية كانت طالبة تجلس مقابله، فبدأ يشرح فكرته مستشهداً بما يقوله وجهها. كانت مفارقة طريفة ونحن نتخيل حالها وهي ترى أستاذاً وبضعة طلاب يحملقون بها ولا تستطيع سماع الحديث الدائر عنها.

كثيراً ما كان يستوقف فاتح تفصيل صغير في غمرة انشغال الآخرين بموضوع آخر، أو شيء يبدو مألوفاً. كان يعشق الطبيعة والأرض والأشياء العفوية. ومرة حدثنا ونحن على أبواب التخرج عن سحر البادية مقترحاً علينا السفر لتدريس أبناء البدو واكتشاف جمال المنسوجات التي يصنعونها. كانت له على الدوام تعابيره الخاصة وطريقته الخاصة في السرد وفي التعامل مع الآخرين. قال مرة لأحد طلابه: «تذكر ذلك دائماً.. الأدب يجب أن يكون خلف اللوحة وليس في واجهتها».

فاتح والأدب

قد يعطي هذا القول انطباعاً بأن فاتح المدرس كان ضد الأدب ولكن الأمر ليس كذلك. كان فاتح بصفته فناناً تشكيلياً ورائداً للحداثة الفنية يعطي الشكل الأولوية المطلقة، ويسعى لتخليص اللوحة من تأثير الأدب. وتبدو مفارقة أمام هذه الحقيقة حقيقة ثانية هي أنه أصدر مجموعتين شعريتين وثالثة قصصية. وأن له الكثير الكثير من النصوص الأدبية المنشورة. إضافة إلى نصوصه الفنية بطبيعة الحال، بل إن جدران مرسمه كانت تمتلئ بعبارات أدبية صيغت بلغة أدبية رفيعة طالما استوقفت زائريه فدونها بعضهم. ونشرت سمر حمارنة عدداً كبيراً منها في الكتاب البالغ الأهمية الذي أصدرته عنه قبل أسابيع قليلة من رحيله. ومن بين النصوص الجميلة التي لا أنساها واحد كتبه في تقديم معرض (تحية إلى ميلاد الشايب) أحد أساتذتنا الذين امتلكوا محبتنا العميقة بفضل صدق التعامل والروح الأبوية التي تسم عمله الهادئ، الصامت المتواضع، وهو ما دفعنا إثر تخرجنا أن نقيم معرضاً لمشاريع التخرج تحية له، كلفني الزملاء أن أطلب من فاتح المدرس (نقيب الفنانين التشكيليين يومذاك) رعاية المعرض. وفي مرسمه الشهير وسط دمشق أبدى ترحيبه الكبير بالفكرة، ثم سحب ورقة بدأ يخط عليها كلمات تقديم المعرض من دون أن يتوقف لحظة وكأنه يحفظ غيباً ما يكتبه. وماهي إلا دقائق قليلة حتى أعطاني الورقة طالباً تدقيق ما كتب وإعطاء رأيي فيه، واستدار ريثما أنجز ذلك إلى البيانو ليعزف عليه ألحاناً أبدعها في تلك اللحظة.

كتب في هذا التقديم:

«تحية من القلب إلى ميلاد الشايب

الوفاء… شيء من الشمس، شيء من الإنسان كما أرادته القوى الخيرة في الكون، وإنه شيء من الأعشاب الطاهرة.

خرجت منذ وقت قصير باقة من الطلاب الفنانين عبر جدران كلية الفنون ومن دهاليزها المحزنة إلى العالم بوجوه فيها الكثير من التأمل والصمت، صمت يصعب تفسيره، خرجوا إلى عالم مادي صرف، تصور سمكا يلقى خارج النهر… إلا أنهم ليسوا أسماكا بل بشر مكافحون وأصحاب حق من عمارة هذا الوطن الجميل.

خرجوا، بعد أن تخرجوا.. وأول شيء قاموا به رسموا حلقة بأجسادهم وبحثوا بأصابعهم الملوثة بالألوان وغبار أقلام الفحم في ثنايا قلوبهم الجميلة.

يبحثون عن صورة معلم وصاحوا بصوت واحد

ميلاد الشايب

ميلاد الشايب المعلم

ميلاد الشايب الفنان

ميلاد الشايب الفنان الصامت

وإنه من معلولا، القرية المقدسة التي يعيش على أضواء حجارتها أكثر فناني سورية الجميلة.

ومن معلولا قرية (الحوّار) بمعناه (الأبيض)، وإن قلب ميلاد أبيض أبيض

يلون ورق الرسم، لكن هل شاهدت ابتسامته؟ أنها حزينة، بريئة، ساخرة.

ولكن هل شاهدت قلم الرصاص كيف يرقص في يده، أنها قص زمن الحضارة في قلوب الفنانين الكبار أمثاله (فنان معلم) ومن هنا تأتي قدسيته.

تخيل راقصة بساق واحدة، هي قلم الرصاص في يد ميلاد يدير رقصها بيد ويتحدث إلى عقول وقلوب طلابه بالحركة المستحيلة التي يرسمها ميلاد.

نعم إنه أبرع من أمسك بقلم الرصاص بيننا، لعله كان يرسم على قلوب تلامذته وهذا ما أغفلناه ولو عن غير قصد..

جاءني هؤلاء الشباب، وكلهم تلامذة أكاديميون لميلاد، كما أنهم تلامذتي وتلامذة زملائنا حماد وشورى وزيات وشما وغيرهم من المعلمين الصامتين.

إلا أن هذه الجماعة الوفية اختصرت الرمز في وجود أشدنا صمتا، وأكثرنا لمساً للقلوب، أن تعلم الفن أمر عادي، إلا أن الصعب هو تعلم حب الفن وهذا ما قام به خلال ربع قرن ميلاد الشايب، كان يُعلّم حب الفن الجميل، فما أروعه من معلم فنان.

رسم اليوم حلقة بأجسادهم هؤلاء الخريجون، حلقة لها شكل قلب حول ميلاد الشايب هذا الجندي الصامت من المعركة الدائرة منذ الأزل بين المادة والنفس البشرية.

تحية من القلب إلى ميلاد الشايب، وما أجمل الوفاء، إنه شيء حقيقي ومن روح الفن الإنساني».

هذا الجمع بين الإنسان والمكان هو من جوهر شخصية المدرس وتجربته الإبداعية. وهو ما تجلى أيضاً في تقديمه لتجربة علي سليم الخالد، كما رأينا في الحلقة السابقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن