اقتصاد

هل يمكن حل مشكلات المؤسسات بطريقة «بروكرست»؟

| د. سعـد بساطـة

تعـريف المدير عـند كثيرين هو: «حلّال المشاكل»؛ فلا يمضي يوم عـمل من دون مشكلة وأخرى؛ فلان غـاب؛ تشاجر زيد مع عـمرو؛ الآلة متعـطلة؛ تأخرت المواد الأولية…إلخ، وهنالك مديرون

– بسذاجة – يقومون بالحل؛ بناء عـلى موقف آخر حصل في زمن مختلف ومع أشخاص آخرين؛ مما يذكرنا بــ: «بروكرست»!

هي أسطورة يونانية تتمحور حول حداد يدعو الناس من المسافرين للمبيت عنده؛ ثم يضعهم على سرير في بيته فمن زاد طوله عن السرير بتر الزائد منه ومن كان أقصر مد أطرافه حتى تتمزق؛ الشخص الوحيد الذي ينجو منه هو الذي يناسب مقاسه مقاس السرير!

لكن في الحقيقة هذه ليست أسطورة فقط بل واقع الكثير منا للأسف؛ فلدينا في أذهاننا سرير «بروكرست» لا نقبل أي شخص كما هو بل نبادر إلى حشره في صورة نصنعها له ونتخلص مما لا يوافقها، لذا يجب علينا أن نقذف بهذا السرير خارج أذهاننا، ونعلم أن للناس مقاسات ورؤى مختلفة وألا نحشرهم في إطار نصنعه لهم ثم نلومهم إذا خالفوه أو خرجوا عنه.

يطلق لفظ البروكرستية على أي نزعة إلى «فرض قوالب» على الأشياء (الأشخاص أو الأفكار..) أو لي الحقائق أو تشويه المعطيات لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق.

نكمل الحكاية؛ استمر «بروكرست» بجرائمه المروعة حتى قـُبـِض عليه وأخضع لمعـاملة ضحاياه نفسها، حيث وُضع على سريره وقطع رأسه ليتلاءم مع السرير.

وهنا نقول عن البروكرستية: «إنها القولبة الجبرية، والتطابق المتعسف، والانسجام المبيت». واستناداً لهذا التعريف فهي تطرق مجالات واسعة من الحياة لتشمل أي محاولة لصب كل الاختلافات في قالب واحد.

هناك الطبيب المخادع حينما ينخذل أمام حالة فيعطي في نفسه تشخيصاً مسبقاً يكيف عليه الأعراض والعلامات ويلوي بها يميناً ويساراً لتأتي على مقاس تشخصيه فبدل أن يسير من العلامات إلى التشخيص سار بالعكس. وتلك الإدارة الماكرة توعز لأجرائها بأن تفصل لها تقريراً يتناسب مع قرار إداري مبيت بدلاً من أن يكيف القرار وفقاً للمعلومات.

أروي لكم طرفة من كتاب بمذكرات طبيب مصري في الأرياف؛ وصف لطفل رافقته أمه يعـاني نزلة معـوية ويعاني الجفاف؛ سائلاً طبياً لمعـالجة الحالة؛ راجعـته الأم بعـد أيام محتجة بأن السائل لم يحسـّن وضع بشرتها الجافة!

للأسف مؤسساتنا تحمل سرير بروكرست معها في كل جلسة للحوار، ناسية أنه كما لأقدامنا مقاسات فإن لأفكارنا مقاسات تأبي المط أو التشكيل أو القولبة، فإن الفكرة وإن حبسها جسد من لحم ودم، فإنها تأبى أن تكون سجينة لحم ودم، بل إنها تسعى للإفصاح عنها وإن حاربها الجميع وطمسها البعض فترةً، وإن رموها بالرصاص، فإنها مضادة للرصاص لا تموت بموت صاحبها، بل بضعف إيمان حامليها.

نعـود لعـالم الإدارة؛ خلّفت الحرب العـالمية الثانية ازدهاراً في أميركا؛ وزاد الطلب عـلى سيارات «فورد» (التي كانت بالأصل سوداء اللون)؛ وهنا تنوّعـت الطلبات: فمن الزبائن من يرغب بسيارة حمراء؛ وأخرى زرقاء؛ وثالثة ذات لونين؛ في حين كان «هنري فورد» الصارم؛ صاحب المعـمل ورئيس مجلس إدارة الشركة معـارضاً لما سماه «الميوعـة»؛ وجلس ساعـات يناقش أعضاء المجلس؛ الذي كان همـّهم إرضاء الزبون؛ بعـد برهة هبّ واقفاً يقول: «أنا رجل طاعـن بالسن؛ سأنسحب لأستريح؛ استمروا بالنقاش؛ مادمتم ستقرون اللون الأسود لسيارة المستقبل!».

إن بروكرست مازالت روحه سارية في أجسادنا، أبت إلا خنق محاولات الإصلاح والنقد البناء، بل تقوم بالإطاحة بها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن