الاستباحة لا تكون بغير التشرذم والضياع، ولا تتحقق الاستباحة من العدو إلا عند انهيار القيم المتوارثة والمعروفة لدى الأمم أي أمة، فالقيم الوطنية والقومية، والروابط لا يمكن أن تكون حكراً على أمة، كما يدعي بعض المتعصبين الذين يسيئون للمبادئ أكثر من الإحسان عندما يدعون أن القيم وسواها خصيصة عربية أو دينية أو عقدية، بل إن المصالح والروابط مهما كان نوعها هي الأساس الذي يحكم الواقع وقيمه، ولم تستطع أي إمبراطورية مهما كانت قوتها أن تجتاح مكاناً ما، وأن تستبيح شعباً وشعوباً بالقوة لو كان هؤلاء يحملون الروابط والقيم المشتركة، والمسلمون والعرب عندما دخلوا إسبانيا فارّين من العباسيين أبناء عمومتهم لم يتمكنوا من دخولها لو كان الحكام الإسبان يحملون القيم التي تؤهلهم لحماية أرضهم ووجودهم، ولكن غياب المنظومة القيمية مكن العرب من بناء إمبراطورية استمرت ثمانية قرون، وما يزال كثيرون يمارسون البكاء عليها، وحين اجتاح هولاكو بغداد والخلافة العباسية في أواخرها، وفعل ما فعل فإنه لم يدخلها لأنه قوي، ولم يدخلها لوجود عدد من الخونة والعيون داخل دار الخلافة كما تردد الكتب، فالحالات الفردية خيانة أو بطولة لا يمكن هولاكو دخول بغداد وفعل ما فعل لغياب منظومة القيم والحب والحكم في ذلك الوقت ما أدى إلى الترهل والضعف، وسهّل عملية الاستباحة والقتل وما تبع ذلك، واستطاع أن ينهي أمة عن الوجود.
وفي إسبانيا أو الأندلس بنيت حضارة علمية وفنية وثقافية لا مثيل لها كما يشهد على ذلك الإسبان قبل العرب، وعلى رأسهم الباحث الأكاديمي (أنخل بالبثيا) في دراساته عن الفكر الأندلسي وتاريخه، ولكن هذه الحضارة على أهميتها أهملت التشاركية، وكانت أحادية التوجه، فعزلت نفسها وتأثيرها، وغاب عنها البعد الإنساني في بعض المفاصل، فتسلل الوهن، ومن دولة موحدة ومتعاونة إلى دول متناحرة، فغابت المنظومة القيمية والمصلحية التي تحقق البقاء ليحل محلها النزاع، وهم أنفسهم أطلقوا على دولهم تسمية (دول الطوائف)، ولو راجعنا جميع الدراسات فإن الأسماء الواردة كلها عربية لا يوجد اسم واحد من غير العرب، فهم الذين دمروا حضارتهم من الأحادية إلى التآمر والفوضى والاستعانة بالآخرين، ولم يكن فرناندو وإيزابيل بالقدرة على تدمير تلك الدولة لو لم تدمر نفسها بنسفها، حتى كلمة أم أبي عبد الله الصغير لابنها الحاكم عندما فقد آخر مدينة (ابك ملكاً لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال) حتى هذه الكلمة سلبية، فهي تدعوه، وهو يفعل من أجل الملك، وليس من أجل الوجود والبقاء!
كثيرون يحاولون تشبيه الواقع العربي بملوك الطوائف، وهذا أمر خطير، لأن العرب اليوم في أرضهم وممالكهم، ليسوا معتدين، ولا خارج بيئاتهم وحواضنهم، وطبيعة الحياة والإعلام اليوم والعالم المفتوح بالعولمة يعطي مؤشرات عديدة ويعطي فرصاً كثيرة، ومنظومة القيم اليوم أكثر وضوحاً واتفاقاً مع الواقع، فالمصالح المشتركة التي تربط أكبر، والحدود المكرسة قبل بها الجميع، والحدود القادمة المقترحة مفضوحة عند الجميع، فماذا ينتظر هؤلاء؟ لم يكن ابن العلقمي وسواه من الذين يرددون سيرهم في الكتب حالات فردية، فاليوم عشرات ومئات منهم ممن خانوا أوطانهم، ويجدون مسوغات، ويستمرون في هذه الخيانات، ويبحثون عن مسوغات دوماً، وهناك من يطنطن لهم ويروّج! إن الخلاف مع الحاكم والسلطات أمر مسوغ دائماً، بل مطلوب في كثير من الأحيان للوصول إلى مكانة أفضل بالتنافس لخدمة الأوطان، ولابد من الإقرار بمبدأ (فاغترب تتجدد) ولكن ليس بمبدأ (فاغترب تتمرد) آن الأوان لمراجعات كثيرة وسريعة تنقذ ما يمكن إنقاذه من الهويتين القومية والوطنية، فالأرض لنا ولسنا دخلاء عليها، والقطيعة مهما كانت لا يمكن أن تخدم المصالح المشتركة والمنظومة القيمية والسياسية والاجتماعية، وقد أثبتت تجارب التاريخ القديم والحديث أن أي أمر مهما كان مهماً يمكن الوصول إلى نتيجة فيه من خلال الحوار، لأن الحوار قادر على تدوير الزوايا والوصول إلى قواسم مشتركة، أما القطيعة فإنها تمنع أي نوع من الحوار، وتجعل الآخر قادراً على استباحة أوطاننا.
إن يقظة الشعور العربي، باستثناء المؤدلج الحاقد، تؤكد أن هذه الرابطة إضافة إلى المشاعر الإنسانية هي الأكثر قدرة على إيجاد قواسم مشتركة، وتحقيق مصالح الناس ولو بالحدود الدنيا.. وتبدأ العجلة بالحركة.. وربما كان الزلزال بغض النظر عما تحدث عنه من علماء وجهلة، وربما كان هذا الزلزال إشارة للعودة إلى حياة مختلفة هادئة، وربما أيقظ هذا الحدث المزلزل ما يعنيه الجينوم من روابط بين الناس الذين طالتهم الكارثة فلم تميز بين واحد
وآخر.. وربما أعلنت الزلزلة أن الحياة رحلة قصيرة، فلتكن لسعادة الإنسان.. وجوه متعددة لاستئصال الوجود، وكما تكافل السوريون تكافل العرب، ويتم إنقاذ الوجود المهدد، ويثبت للعالم أننا أمة غير منقرضة، فالروح الموجودة كفيلة بالبقاء أكثر من المادة.