شهدَ يوم الثلاثاء الماضي في فرنسا يومَ إضرابٍ كبير دعَت إليه جميع النقابات احتجاجاً على مشروع قانونٍ لرفعِ سن التقاعد، لكن ما ميّزَ هذهِ الإضرابات وما تخلَّلها من احتجاجاتٍ أنها وبعكسِ احتجاجات ما يعرف باسم «السترات الصفراء» لم تشهد أحداثَ عنفٍ ولا تكسير، وهذا ما دفعَ البعض ليهمسَ قائلاً:
لم تجد السلطة ربما من توظفهم لهذه المهمة! لكون المحتجين في السابق كانوا يتهمون السلطات الفرنسية بأنها تقف وراء عمليات الكسر والنهب تحديداً في الشوارع التي تكتظ بمتاجرِ الماركات الثمينة لتشويهِ صورة الاحتجاجات، ربما لأن الاحتجاجات هنا مرتبطة بجميع الفرنسيين من دون استثناء لكونِ قانون التقاعد لا يستثني أحداً، بما فيهم العاطلون عن العمل.
لكن دوام الحال من المحال، وحده فيديو لقيام بعض المحتجين بتكسيرِ سيارةٍ شكَّلَ للسلطة حبلَ نجاة، تحديداً أن السيارة تتبع لما يسمى «إس أو إس»، وهي جمعية تضم عدداً كبيراً من الأطباء الذين يقبلون استقبال المرضى في أيام العطل والدوام المسائي أو زيارة المرضى غير القادرين على التنقل بسبب أوضاعهم الصحية، الجمعية التي تأسست في ستينيات القرن الماضي بسبب وفاةِ مريض بجلطة قلبية قبل تمكنهِ من التواصل مع طبيب خلال عطلةِ نهاية الأسبوع، تحظى باحترامٍ كبير بين الفرنسيين وقد قالَ أحد مؤسسيها:
«من العار أن تسريباً سيصيب المسبح الخاص في بيتك ستجد لهُ من يقوم بإصلاحهِ في أي وقت فيما لا نجد الأمر ذاته فيما يتعلق بحياة الناس»، هنا بدأ إعلام السلطة يعيد نشر هذا الفيديو مع كل نشرات الأخبار، بات هذا الفيديو مقدمة للتقارير الإخبارية مع عناوين عريضة أهمها (حتى سيارات الأطباء الذين يعملون لإنقاذ حياة الناس لم تسلم من الاحتجاجات!)، (اليوم بدأنا بسيارات الأطباء فما هو التالي؟!) وغيرها الكثير من العناوين التي تعطي انطباعاً بأن من قام بهذا التحطيم فعلياً هو المستفيد من الفيديو! تحديداً أن الطبيب الذي تم تحطيم سيارته بطريقة غير مفهومة كان فعلياً بزيارة لمريضٍ!
بالتأكيد لا يمكن لأحد من مبدأ أخلاقي أن يدعمَ كل مالهُ علاقة بالتكسير والتحطيم تحديداً فيما يتعلق بأطباء لا ذنب لهم، لكن هذهِ الحادثة فعلياً أعادتني سنواتٍ إلى الوراء عندما حاصر الإرهابيون مشفى الكندي بحلب ومن ثمَّ قاموا بنسفهِ عن بكرةِ أبيه بذريعة «الثورة على السلطة»، يومها كان كل شيءٍ مباحاً بالنسبة لهذا الغرب الذي يدافع عن المجرمين عندما يخدمون مصالحه، تحطيمَ سيارة طبيب كان في زيارةِ معاينة لمريضٍ واحد هو عمل جبان ومدان، لكن تفجير مشفى بالكامل كان يخدِّم عشرات الآلاف من المرضى الفقراء من دونَ أن يتكلفوا قرشاً واحداً هو تطلع نحو الحرية والديمقراطية، ألهذا الحد بلغَ مستوى النفاق؟!
لكن في سياقٍ آخر دعونا نعترف بأن هكذا مقاربات تجعلنا نعود لما هو أهم: كيف يمكن لإعلام ما أن ينجحَ في تسويق الحالة الإنسانية في معاني تحطم سيارة طبيب، فيما يفشل إعلام آخر باستثمار معاني قيام الإرهابيين بتفجير مشفى بالكامل؟! ربما هو نموذج بسيط، لكن في الواقع لدينا الكثير من الأمثلة عن نجاحهم وفشلنا، أمثلة تقودنا للعبارة الأهم:
مهما كانت قضيتك عادلة، ستخسر معركتها إن لم تنجح إعلامياً بتسويقها، يبدو أن عدمَ نجاحنا ليس في الجانب الإعلامي فحسب! رحم اللـه شهداء مشفى الكندي فما زالت صورتهم تعطي دفعةَ أملٍ لكلِّ يائس!