النزف والولادة
| إسماعيل مروة
النافذة مطلة على الطريق، أناس يتحركون في كل اتجاه، لا يرعبهم صوت قادم من هنا أو هناك، لا يلتفت أحدهم لحجم صوت مهما كان هذا الحجم، وأكبر ما يمكن أن يصدر عن واحد لزميله الذي يمشي إلى جواره هو تخريره ما إذا كان الصوت صادراً أو وارداً، وفي غمرة ضحك الاثنين وعبثتيهما قد تصل قذيفة أو شظية لتغتال ضحكة أحدهما أو كليهما في الوقت نفسه، وقد يغادر هذا أو ذاك وهو لا يزال متشبثاً بالحياة وبالأرض، ولا يزال مصمماً على عدم المغادرة والرحيل.
يظهر كل شيء من النافذة، وتندّ عن صديقي عبارة تلقفتها: الناس أذكياء، هؤلاء الذين يسيرون في الطريق أذكياء أكثر مما يتخيل أحد، والمشكلة أن الداخل والخارج على السواء لا يتعامل مع هؤلاء الناس بما يستحقون من احترام لذكائهم!
راقت لي الفكرة وقلت لصديقي: أمر طبيعي، فالإنسان عموماً لا يقدر الذكاء، بل لا يحبه عند الآخر، لأنه يشكل منافساً، بل قد يشكل مخرجاً وبديلاً يزعج الآخرين، أما أنا يا صديقي أريد أن أكون أكثر وضوحاً، فالسوريون العاديون الذين يتجولون في الشوارع، يستقبلون القذائف والشظايا، ويعيشون الحياة، ويحبون ويتزوجون ويعشقون، وينفصلون، ويتشاجرون، ويؤلفون النكات على أنفسهم وحياتهم هم الأكثر ذكاء والأعلى مرتبة من كل أولئك الذين ركبوا الطائرات أو البحر وصاروا خارج سورية، ولا تغتر بالشهادات العلمية التي يحملها هذا أو ذاك ممن رحلوا، وهم بلا شك حددوا طريقهم، وأرادوا خلاصاً فردياً، وكان لهم ما أرادوا.
سيعيشون مرتاحين، وقد يغادر أحدهم الحياة اليوم أو بعد أشهر، وقد يعيش عمراً، ويعيش سعادة غامرة لخلاصه الفردي، لكنه لا يدري أنه بمغادرته تلك أطال جرح سورية، وزاد من عمر أزمتها، فالبقاء والتجذر هو الحقيقي والوحيد القادر على وضع حد لكل أزمة، والعقلاء هم القادرون على تشكيل جبهة في وجه الجنون!
إن هؤلاء الذين يسيرون في الخارج يا صديقي بينهم الطبيب والمهندس والمدرس، الطفل والطالب، الفقير والغني، كلهم يسيرون على الرصيف ذاته، ينتظرون وقود التدفئة معاً، ينتظرون وسيلة نقل تقلهم إلى أماكن عملهم أو سكنهم.
تسألني يا صديقي ما الرابط بين هذا الحديث والذكاء؟!
إنهم الأذكى، فما من أحد منهم يظهر على شاشة ليكذب على الناس، أو يتحدث حديث المنجمين من أجل حفنة من المال، إنهم الذين لا يحفظون اسماً من الأسماء التي تمارس الدجل عليهم، إنهم الناس الذين لا تعنيهم، حكومة إن تغيرت أو بقيت، إنهم الذين لا يحفظون أسماء المسؤولين لأنهم لا يشبهونهم، إنهم لا يطمحون أن يصبحوا مسؤولين، ولا يطمعون في الوصول إلى مكان ما، إنهم الذين لا يملكون في جيوبهم سوى ليرات، ويعطونها للسائل الذي يمر بهم وإن كان كاذباً، إنهم الذين حملوا حبات قليلة من الفاكهة أو الخضر للاحتفال بعيد المولد النبوي أو عيد الميلاد، إنهم الذين إن سألتهم: أين ستمضون عيد رأس السنة يأتيك جوابهم: أي سنة؟ أي رأس سنة؟ إن وصلنا بخير سنمضيه في بيوتنا مع الأسرة، ولن ينتظروا سهرة مترفة لا تشبههم يقدمها التلفزيون الوطني في استديوهات غريبة عنهم..! لا يتذمرون لأنه ما من جدوى! لا يظهرون ردود أفعالهم لأنها تحرق أعصابهم وغذاءهم، والأمر يتطلب غذاء غير متوفر!
إنهم الأذكى يا صديقي لأنهم لم يغادروا، احتفظوا بأرصفتهم، وإن كانت أرصفة قهر وعذاب وألم، مشوا على أرصفتهم ولو كانت خطراً أو موتاً..! إنهم الأذكى لأنهم اختاروا أن يكونوا لاعبين على رصيفهم، شاهدين على المآسي، راصدين لولادة لحظة الفرح التي قد تأتي بعد شهر أو بعد دهر..!
إنهم الأذكى لأنهم موقنون بأن القادم لسورية لن يحمل إلا الود والحب، وبأن الغد لن يبقي اللصوص، ولن يحمل من الخارج من غادرها وهي تعاني المرض والحمى، وحدهم هؤلاء يا صديقي لا ينتظرون إلا غد سورية، ولن يعنيهم أن يكونوا في مواقع وأماكن! كانوا شهود السقوط المدوي، ووحدهم سيكونون شهود الولادة الجديدة، وكلما طال المخاض كانت الولادة طبيعية.. هؤلاء هم الذين بقوا حتى لا تكون الولادة قيصرية مؤلمة تستدعي من سورية المزيد من الراحة!
اختاروا أن يلعبوا على الأرصفة
أن يتزوجوا على الأرصفة
أن يموتوا على الأرصفة
لم تحتوهم الأماكن الفارهة!
لم تستوعبهم المهاجر!
لم يسرقوا سورية كما فعل الآخرون ليسكنوا القصور والفلل، أو لتستقبلهم المهاجر مقابل أرصدتهم، ولم يشاؤوا أن يكونوا مهاجرين غير شرعيين ينتظرون كرم طويل العمر!
اغتصبت أحلامهم وآمالهم وبقوا، لأنهم يؤمنون أن فعل الاغتصاب لا إثم فيه على من وقع عليه الاغتصاب، ويعرفون أن العهر في الأماكن الكبرى وإن كان ملوناً وزاهياً فلن تنجو منه الروح ما دامت الحياة.
إنهم الأذكياء والمخلصون، إنهم سورية الغد التي لن تقبل كاذباً أو دخيلاً أو لصاً أو عميلاً.