من دفتر الوطن

رؤيا منفصلة عن الواقع

| حسن م. يوسف

«الكلمات مثل الأطفال، كلما ازدادت عنايتك بها، طلبت المزيد من العناية».

استيقظت اليوم وهذه الفكرة تنبض في رأسي وتتكرر من دون توقف، صحيح أن لا وعيي الذي يكثف عمله في أثناء نومي، يتحفني أحياناً بأفكار وخيالات تدهشني، إلا أنني غالباً ما أميز أفكاري وخيالاتي عمَّا سبق لي أن قرأته أو شاهدته، لكن هذه الفكرة تلعب معي منذ الصباح ولا تكف عن مخاتلتي، فهي تبدو لي حيناً كما لو أنها إحدى بنات أفكاري، غير أنها بعد لحظة أو لحظات، سرعان ما تبدو لي كابنة رجل غريب!

لجأت للعم غوغل وبحثت فيه عن هذه الفكرة بالعربية والإنجليزية على أمل أن أعثر على والدها الشرعي كي أخطبها لكم منه، لكنه لم يسعفني مع الأسف، لذا وضعت العبارة بين قوسين احتراماً لسيادة الشك الذي تعلمت منه أكثر مما تعلمت من اليقين!

نعم، الكلمات مثل الأطفال، فهي كائن هش يحتاج إلى ما هو أكثر من الحليب والحفاضات والرعاية، وقد استنتجت بعد أن خدمت أكثر من نصف قرن على جبهة الحروف أن أفضل الكلمات هي التي لها طبيعة الزجاج النقي الشفاف، أي تلك التي تحفظ المعنى في داخلها وتظهره لنا بوضوح وبساطة في كل أبعاده مهما كانت تلك الأبعاد معقدة وعويصة.

أعترف لكم أن الكتابة شجرة مرة، وأقرب الأشجار شبهاً بها هي شجرة الصبار. بعض الكتاب يختارون الطريق السهل إذ يكتفون بالتقاط ثمار الصبار الواقعة على الأرض، لكن من تتوقف عليهم مسألة التقدم يختارون الطريقة الأكثر إيلاماً، فرغبتهم في جني المعاني والصور الطازجة تجعلهم يتغلغلون في شجرة الصبار ويجنون ثمارها الشائكة بأيديهم العارية مباشرة.

يعلم قارئي المتابع أنني منذ أن بدأت مرابطتي على جبهة الحروف قد كرست نفسي، بقدر ما مكنتني الظروف، للدفاع عن خيرنا العام. صحيح أن التعبير عن «هموم الناس» كان ولا يزال وسيبقى بالنسبة لي على الأقل، أسمى واجبات من يمسك قلماً، إلا أن التعبير عن «هموم الناس» لا يعني اجترارها على الطالعة والنازلة. لذا صرت في كثير من مقالاتي مؤخراً، أعبر عن الهموم بطريقة ساخرة تخفف منها بدلاً من أن ترسخها.

صحيح أن «هموم الناس» في هذه المرحلة الصعبة تكاد تنحصر بلقمة العيش والسلامة الشخصية، لكنني ككاتب أنشر مقالاتي غير مرة في الأسبوع، بت أخجل من التكرار، لذا بدأت أتناول «هموم الناس» من أطرافها البعيدة الباردة! وقد أغرى هذا بعض الزملاء بالتنمر عليَّ واتهامي بأنني «منفصل عن الواقع».

والحق أن هؤلاء ليسوا مخطئين، فأنا أبذل أقصى طاقتي بين وقت وآخر كي «أنفصل عن الواقع» لقناعتي بأن من هو جزء من اللوحة لا يستطيع أن يشكل تصوراً متوازناً عنها، لأنه يرى الأشياء الصغيرة القريبة منه أكبر من الأشياء الكبيرة البعيدة عنه. ومن الصعب أن تقنع من هو جزء من اللوحة بأن الواقع الذي يراه بأم عينيه يخدعه!

لست متنبئاً ولا أحب المتنبئين، لكنني كرجلٍ ينفصل عن الواقع بين وقت وآخر، أرى أنه لا مستقبل لـ (الكيان- السرطان) في منطقتنا، وأن الذين يحلمون الآن بالهجرة من سورية سيحلمون مستقبلاً بالعودة إليها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن