«بانتظار غودو» للمسرحي العالمي بيكيت نص مختلف عن المسرح كله، وترك آثاراً فكرية مدهشة في الأدب العالمي والمسرح والفكر، وجسّد فكرة انتظار ما لا ينتظر، وفكرة انتظار المخلص بعبثية نادرة ونجاح منقطع النظير، ومن حسن الحظ أن هذا النص تمت ترجمته، وقدّم مرات لا تحصى على المسارح العربية وفي الدراما، سواء كان التقديم مباشراً للنص، أو كان باستلهامه في نصوص عربية أكثر من أن تحصى! والغريب أن الفكر الذي أنتج غودو غادره ووصل إلى المسرح الحديث والفكر الحديث، ولكننا نحن لا نزال معلقين بغودو وننتظر المخلص! ففي فكرنا وتراثنا وقراءتنا للتراث نبحث دوماً عن الخلاص، ونبحث في السيرة الموضوعية عن مواطن البطولة في الشخصيات.
وكأننا نرجو أن تعود هذه الشخصيات لتخلصنا مما نحن فيه بسبب عجزنا عن الفعل! فكم من أديب وكاتب ورمز ينادي على شخصيات قديمة لها ما لها و عليها ما عليها متمنياً عودتها من عمر بن الخطاب إلى صلاح الدين وسواهما، وكأن هذه الرموز تملك القدرة السحرية على فعل شيء في واقعنا الذي ترهل خلال خمسة عشر قرناً من الزمن العربي الممتد!! سنوات طويلة من القراءة والمتابعة ولم أجد إلا لغة الانتظار حتى من الأطراف العلمانية التي اتخذت شعارات ترويجية تدور في الفلك نفسه، وكأن النظريات الفكرية العربية لا يمكن أن تولّد شيئاً جديداً من واقعها، وكل ما يمكن أن تفعله هو إعادة قراءة ذلك التراث، الذي إن كان عظيماً، فهو عظيم في زمنه وليس في زمننا! العرب اليوم يتصارعون على اللاشيء، فهذا مع، وهذا ضد، ولم يخطر في بالنا السؤال حتى لو وصلنا إلى اتفاق حول هذه الشخصيات فهل نملك القدرة على إعادتها لتصحيح مسار الحياة؟ ولم يخطر ببالنا أن ننعتق لنقول: إن أي خلاف نتحدث عنه في الماضي لا يتجاوز أن يكون خلافاً سياسياً سلطوياً! وماذا يفيدنا هذا الخلاف الذي بلغ أوجه، واليوم يستعر أكثر ويصل إلى مستويات قد تبقيه قروناً طويلة! المؤسسات البحثية والفكرية والإنسانية ناهيك عن العلمية البحثية صارت في أماكن أخرى بعيدة، نحن لا نزال نبحث في قصيدة السموءل وهم صنعوا ديوان المستقبل! وليس صحيحاً ما يقال عن عدم أهمية العلوم الإنسانية في الحضارة الحديثة، فكل ما يجري من أبحاث يؤكد الصلة الكبرى بين أرسطو وأفلاطون وآخر النظريات العلمية الحديثة!
وها هو إبراهيم أبو الأنبياء ينهض من جديد من نار النمرود ليضع مساراً جديداً لحياة البشرية، وحياتنا ضمناً، نحن لا نزال في دائرة النار والحطب الذي جُمع لحرقه، وهل نجا أم لم ينجُ، ونردد قصصه للدلالة على النبوة وقدرة الله، بينما مراكز الأبحاث الإنسانية بالتوافق مع مراكز البحث العلمي في أرقى الجامعات أخذت إبراهيم ورمزيته لتصنع منه قضية سياسية اقتصادية جغرافية عسكرية، يصعب على فكرنا أن يستوعب صلاتها والربط بينها بهذه الطريقة المنهجية التي تؤسس لعالم جديد! ولو تنبهنا فإن ما نردده في جلساتنا وعلى منابرنا وفي كتبنا هو نفسه الإنساني والإيماني الذي يتم تسخيره في مراكز الأبحاث والجامعات العالمية لبناء عالم جديد يناسب الأقوياء، دون الدخول في أي تفصيل عقدي وإيماني، والاكتفاء بالرمز ودلالته وتسليمنا به، بل وانتظارنا ليكون مخلصاً لنا! والدارس الحقيقي هو الذي يستطيع أن يستشف مقدار ما احتوت كتبنا وتفاسيرنا منذ القدم من قراءات استطاعت أن تخدم فكرة مراكز الأبحاث الحديثة لأفكار قديمة وراسخة في أذهاننا وتراثنا، ولكننا حتى وإن نقرأ مسرحية بيكيت فإننا نمارس الانتظار لغودو العربي الذي يمكن أن يخلصنا مما نحن فيه!
سنوات طويلة مرت على الدمار لمجتمعاتنا لا تنحصر فيما حدث منذ مطلع الألفية، وإنما تبدأ من استقلال باكستان عن الهند، والحرب في أفغانستان والحرب العراقية الإيرانية واحتلال العراق، وما أطلق عليه لقب الربيع العربي، ولم ننتبه إلى أن المراد بنا شيء خطير وكبير، وكل معالجاتنا آنية تعتمد على رد الفعل وحشد الأفكار الضيقة للنجاة المؤقتة! ومن يتابع وسائل التواصل والمواقع التي فيها محللون وكتاب فسيجد تلك السطحيات في المعالجات، وهذا التشظي الطائفي، وكل واحد منهم ينتظر غودو الخاص به، وأظن أن الانتظار ليس لإيمان بالدجال والمنتظر والمهدي وحسب، بل لعجزنا عن الفعل، وتوسلنا بأن يأتي من يحلّ لنا كل ما نحن فيه من ضعف وتشتت، نؤمن بالانتظار على الرغم من دراستنا وشهاداتنا لأننا محكومون بالفكر الموروث الجمعي الذي لن يتنازل عن التحكم بكل مفصل دون نهضة فكرية عقلية، تجعل من إبراهيم رمزاً وتخرجه من جدلية النار، أحترق أم لم يحترق!!
لا خلاص لنا إلا عندما نتوقف عن انتظار غودو بأي اسم كان، وبأن يكون شريكي أهم عندي من أي غودو مرتقب.. محاولات تلميع غودو أو الإساءة إلى غودو لن تفعل شيئاً سوى إعطاء الفرصة لمراكز الأبحاث الإنسانية لتتجاوزنا ونحن لا نزال ننظر للشجرة التي اختبأ بها زكريا وتم تقطيعه بالمنشار داخلها.
إن مجمل ما دار من نقاش طويل حول هذه القضايا، وحول صلاح الدين وصولاً إلى جمال عبد الناصر يكفي لبناء منظومة فكرية متكاملة بعيداً عن سفسطة الحوار حول ما مضى! وماذا يعني إن كان جيداً أم لم يكن، وقد انتهى؟!