نسيت كتابة اسمي على ضوء لوحة … لؤي كيالي النازف الذي أراد غسل خطايا البشرية
| نجاح إبراهيم
ثمّ ماذا
يا عاشق الحزن الجميل؟
حدّثنا يا أيّها المترف بالألم، عن الحزن الذي فيك!
حدّثنا عن هذا المتناسل الأسود، جبْ بنا شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً على امتداد مساحات الأسى في أعماقك، وفي لوحاتك!
لست تتحدّث، ولست تقولُ شيئاً، الذي خلفته وراءك من أثر هو الذي يشيرُ، فالطائر الجميل يتركُ بعض ريشه، ينبئُ عن مكانه بعد الرّحيل، فتستدير رؤوسنا نحو ملحمة فنية أنجزتها عام 1965، فنجد ثمّة مجموعة بشريّة، كتلاً سوداء تتكوّن من ثماني نساء، أربع منهن يقفن في الجهة اليمنى، وأربع في الجهة اليسرى، يفصلُ بينهن رجلٌ يرتدي اللون الأسود، خافضاً رأسه، ينظرُ إلى الأرض بسهوم واضح، ويداه مسبلتان نحو الأسفل بتعبٍ شديدٍ، على حين هناك طفلان على جانبيّ اللوحة، أحدهما يحملُ حمامة سلام، لكنّها ميتة، والآخر يحتضنُ أمه بيديه، ووجهه يتطلع إليها برعب وذهول وتساؤل مما يحدث حوله، إذ يستشعر أمراً مهولاً ولاشك.
لم تكن تنطقُ -لأنك قلت كلّ ما لديك وغادرت- لوحتك، الملحمة أسهبت في سرد الوجع، خاصة عيون شخوصها التي تنفتح على سرّ عميق، تبوح بما تريد، وتعبّر إلى أقصى الحزن بما تعاني، وكذلك تلك الوجوه التي تنزّ ألماً وانكساراً وحزناً، وتحكي مأساة الإنسان.
لوحة تحدّثنا، ولم يعد هناك ضرورة لأن نفتح أعيننا وننظر، لأننا تلمّسنا الحزن ببصيرتنا، وعرفناه دائم الحضور في لوحاتك، فآمنا به لدرجة أننا أصبحنا نشكّ بوجود الحزن قبلك.
لهذا أصبحنا ممتنين حيناً لعبقريته، ولا عنين حيناً على ورطته.
فهل الحزن ورطة؟
ذات زمن، قال الرّسام الرّوسي الأصل «مارك شاغال»، راغباً ومُتمنياً في تساؤلٍ نبيلٍ: «هل سيمنحني اللـه القوّة على استنشاق عبير الصّلاة، وعبير الحزن في لوحاتي؟
ترى كيف يُشمّ حزنٌ من لوحة؟!
هل يكون ذلك من خلال اللون الأسود، الذي يستغرقُ الرّسام؟أم هو الموضوع؟ أم ملامح الشخوص التي تستنطقُ به؟
في لوحات لؤي كيالي يفاجئك اللونُ الأسود، يُنبئك عن حزنٍ واسع، مُتجذر وقادم، وكذلك تقاطيع الوجوه، والموضوع الإنساني الذي يخرجه بعد غوصٍ في أعماق النفس التي يصوّرها، وينقلها إلى اللوحة عبر إحدى مفردات التكوين الجسدي، يُخرج ذلك الحزن الدّفين من نفس الإنسان بإطار جديد يتجاوز فيه الأسلوب التقليدي.
فلؤي فنان مُجدّد، يعدّ من أهم الفنانين الذين ساهموا في توطيد الحداثة الفنيّة، موضوعه الإنسان المقهور، يخترق أعماقه، يصل إلى ماغما مخزونه المستلب، يمسّه ثم يخرجه بعد أن يربطه مع الهمّ الاجتماعي والسياسي، يصعّد ذلك الألم بلغة الفن، ولا يغيب عنا، عن المتتبع لبداياته كيف ابتدأ مع الحزن، إذ كانت تجذبه الوجوه التي تنضح حزناً لافتاً، حزناً صامتاً، يبرزها بما تحمل من ألم ومعاناة وقهر، كما كان في لوحته «صباح الخير أيها الحزن» فثمّة حزن واضح، راكد، والشخوص متماسكة، ترنو بصمتٍ مقدّس، بيد أن الفنان في مراحل لاحقة أظهر جوانب أخرى للحزن كالجانب الانفعالي، فبدت للأشخاص إيماءات وحركات مرافقة للألوان، لتعلن عن موران وقلق واضطراب، ما يدفع بالمتلقي لأن يشعر بها تنطق بالمأساة التي تغتسل بها.
راح كلّ شيء يشي بذلك، أياديهم، رؤوسهم، أعينهم، وقفاتهم، أعناقهم، وحتى مسامهم، يتضح ذلك في معرضه عن قضية فلسطين، القضية التي هزّته ودفعت بكلّ أحزانه المتراكمة، وأحزان البشريّة إلى الظهور، وجعلت منه إنساناً مُنهاراً، فاقداً التوازن، وخيّل للآخرين أن هذه بكلّ أحزانه المتراكمة، وأحزان البشريّة إلى الظهور، وجعلت منه إنساناً مُنهاراً، فاقداً التوازن، وخيّل للآخرين أن هذه القضية القومية، هي قضية لؤي كيالي لشدّة تأثره، فجاءت لوحاته تسردُ معاناته كما تسردُ معاناة الشعب الفلسطيني، بل الشعب العربيّ، خاصة نكسة حزيران، وراحت الشخوص تعلن حالة الضياع والتشظي والقهر، بشكل واضح ومؤلم، كما ترمز حركات الأشخاص في اللوحات الى القلق والحزن العميق الذي تنابت وتغاصن حتى ليصبح ذا حضور وتجذر وهويّة.
هكذا كان لؤي كيالي، ابتدأ بالذي انتهى، راوده الحزن، ثمّ هزّه، ليبكي ريشته، تمازجاً، تماهياً، ولم نعد نفصل بينهما، حتى خلنا أن الحزن قد ولد معه، وفيه، لا بل ورثه مع جيناته، وصار في لوحاته يتضوّر عمقاً وعملقة، وكلما تطلعت إليه يتحفك بتوالده، مثل زوبعة في صحراء لا تكتفي بالحضور، وإنما بالدّوران والتناسل والتضخم، وصار صعباً على المتلقي أن يفرّق بين الفنان وبين شخوصه في اللوحات، إذ دائماً كان يربط حزنه العميق مع حزنهم، هؤلاء الذين بحث عنهم، فوجدهم، وارتأى مع حزنهم، هؤلاء الذين بحث عنهم، فوجدهم، وارتأى أن يعبّر عن مآسيهم، فأعطى جلّ ما عنده، وأنفس ما عنده من أحاسيس واستغراق وانفعالات، مستخدماً اللونين الأسود والأبيض، واللون الذي يتأرجح بينهما، الرّمادي، ليمدّ القضية التي كرس نفسه في خدمتها، بعداً مأساوياً، ما أدى إلى اشتداد أزمته النفسية، فاضطر إلى دخول المصح للمعالجة، وكان أن رسم لوحة «ثم ماذا» التي نحن بصدد الحديث عنها..
ثمّ ماذا؟
في هذه اللوحة نزف لؤي كيالي حزنه الكبير، لعله أراد أن يغسل بعض خطايا البشرية؟ وربّما أراد أن يضع فيها كلّ مآسيها، أراد بها أن يخلص العالم من القهر والفقر، فوضع كلّ ما في روحه وذاته من حزن بين أيدينا، بل أمام أحداقنا حتى استشعرناه يسيلُ على مسامنا، وما عدنا ندرك من أين نبع؟! ورحنا ندور في محراب الألم، نتمتعُ بحزنٍ لا يُضاهى، نتساءلُ في دواخلنا: أصحيح أن الذين لا يعرفون الألم والتشظي، لا يُدركون متعة الحزن؟
هذا الحزنُ الدّاهش، الذاهل نتبعه، يتبعنا، لا فرق!
لوحة يُغطيها الانكسار والألم المأساوي العميق، ثمّة إنسان يعيش قضيته، وأزمته، وقد قال عنها الفنان في إحدى الصحف: «إنها مأساة ضخمة مأساة اللاجئين النازحين عن الأرض، مأساة حاولت قدر استطاعتي وإمكاناتي الفنية أن أعطي أبعادها في اللوحة، تبدو فيها ثماني نساء بلا نصير، وطفلان، ورجل واحد، الرّجل هو الإنسان مطرق خجلا نتيجة لشعوره بالذنب، لأنه باع أرضه إلى عدوه، ويداه مرتعشتان إلا أن رجليه ثابتتان في الأرض على الرغم من أنه في حالة تعب…».
عن هذه اللوحة يدلي برأيه الفنان التشكيلي والرّوائي الأستاذ أيمن ناصر فيقول: «أول مرّة رأيت فيها لوحة.. ثم ماذا؟، شعرتُ بصدمة عنيفة لما تحتويه من واقعية تعبيرية محمّلة بالرّموز المؤلمة ودلالات الحزن الصّامت، متمثلة بطفلين وحمامة ميتة بيد أحدهما، وبعيون ثماني نساء شاخصات نحو السماء ينتظرن الخلاص الإلهي، يقف وسطهن رجل وحيد مطأطئ الرأس، منكسر بذلة، يمثل التخاذل والإحساس بالذنب بتهدل يديه المرتعشتين قريباً من الأرض التي فرط بها وباعها للعدو.
تعتبرُ هذه اللوحة من أهم اللوحات التي وضع فيها الفنان هذا الزّخم من الشخوص، ومغايرة كلياً لما عرف عنه من الصيغ الجمالية والموضوعات الإنسانية المألوفة والشفافة، كما أنه رسمها بالأبيض والأسود فقط ليحقق هدفه الأساسي من فكرته كباقي لوحات هذه المرحلة مغيباً فيها الجانب الرومانتيكي والجمالي، معرّياً الأعماق، كاشفاً عن الوجه المظلم للعالم.
اللوحة ولا شك مترفة بالرّموز والإيحاءات، غنيّة بالدلالات، استطاع الفنان أن يعبّر من خلالها عن موضوع إنساني سياسي، مؤكداً أن الفنّ التزام بقضايا الإنسان وما يعترضه من مشكلات.
وقد عرضت هذه اللوحة مع مجموعة من لوحات أخرى في دمشق عام 1967، تلقى لؤي آراء متفاوتة تتأرجح بين تأييد ورفض لها، تناول النقدُ أسلوبه الجديد وارتأى النقاد أن يعود إلى مرحلته الأولى، في حين أراد الآخرون الاستمرار له بهذا الأسلوب، ما ولد لديه حيرة وأزمة نفسية، هو المترف بالإحساس المرهف، فثار على نفسه، امتعض وأحرق لوحات المعرض، وغادر دمشق برمتها إلى مدينة حلب لينزوي وليدخل بعد ذلك المشفى للعلاج، متابعاً حزنه اللامنتهي، نازفاً إياه حتى الخلود.