اقتصاد

كان «بنكاً» فهوى!

| د. سعـد بساطـة

مع الاعـتذار لأغـنية «كان صرحاً في الخيال فهوى» قصيدة الشاعـر الطبيب إبراهيم ناجي؛ غـناء المبدعـة أم كلثوم 1962، التي تتحدث عـن حب ضائع؛ في حين نتكلم الآن عـن مليارات مفقودة ببنوك كثيرة؛ لأسباب شتى!

نبدأ الحديث عـن تداعيات انهيار بنك عريق عمره نصف قرن؛ وأصوله ربع تريليون دولار؛ هو بنك سيليكون فالي؛ وثاني أكبر انهيار بنكي في تاريخ الولايات المتحدة بعد أزمة العـقار المالية عام 2008؛ عـلماً أن له مكانة مرموقة فترتيبه السادس عشر في البلاد، ولديه علاقات مع نصف الشركات الناشئة الأميركية، فما مسببات انهيار بنك يعد الأكبر من نوعه في العالم في وقت تنعم فيه البنوك بالأرباح مع ارتفاع أسعار الفائدة؟

قبل أن نخوض بالتفاصيل: أرى من المناسب توضيح ما تعـنيه كلمة «بنك»؛ وما مهامه!

المشهد الخارجي للبنك يخلب الألباب، حيث نرى الموظفين جالسين في مكاتبهم داخل أبراج عالية يتبادلون عبارات ومصطلحات مالية في حين يقومون ببعض العمليات الحسابية المعقدة، لكن في الواقع، الأمر مختلف تماماً حين نكتشف أن البنك ما هو إلا شركة بسيطة للغاية وظيفتها حفظ وتحويل الأموال ومنح القروض، وتقدم البنوك خدماتها للأفراد والشركات.

البنك هو المكان الذي نحتفظ وندخر فيه الأموال، أو الوسيط الذي نحصل من خلاله عادةَ على الرواتب أو الأرباح، ولا يقتصر الأمر على ذلك، حيث يقوم البنك باستثمار أموالنا وتنميتها، ولا يحتفظ بأموالك لإبقائها آمنة فحسب، بل يستخدمها لتنمية مدخراتك، ولذلك يقوم البنك بتسجيل ومتابعة جميع الحركات التي تتم على حسابك سواء السحب، أو الإيداع وغيرها من المعاملات.

يعد الإقراض هو الوسيلة الرئيسة التي يستخدمها لتوفير تسهيلات ائتمانية وسيولة للعملاء، ورغم تعدد أنواع القروض إلا أن مفهومها بسيط للغاية؛ حيث يقوم البنك بمنحك مبلغاً معيناً على أن تقوم بسداد قيمة المبلغ في صورة أقساط مضافة إليها نسبة فائدة بالاتفاق مع البنك، وهو ما يعني أن البنك يحصل على مبلغ إضافي على القيمة الأصلية للقرض.

نعـود للبنك المفلس؛ تأسس 1983؛ ووجد بوادي السيليكون ضالته، حيث يتوجه روّاد الأعمال لتأسيس شركاتهم الناشئة لوجود البنية التحتية والشركات المساندة. وحتى قبل عام كانت أموره تبدو مبشّرة، حيث وصلت قيمته السوقية إلى 45 مليار دولار. وحينما انتعشت الشركات التقنية مؤخراً زادت الودائع لديه، فقفزت ودائعـه من 40 مليار دولار عام 2017 إلى 189 مليار دولار عام 2021، أي أكثر من ثلاثة أضعاف! في حين ازدادت القروض في هذه الفترة من 23 ملياراً إلى 66 مليار دولار، وحيث إن أرباح البنك تأتي من القروض لا من الودائع، حاول البنك استثمار هذه الودائع في أصول مدرّة، مشترياً سندات حكومية. عند وقت شراء هذه الأصول كانت نسبة الفائدة منخفضة، وبالتالي كانت السندات في قمة أسعارها، وعندما ارتفعت أسعار الفائدة اصطدم البنك بواقع مؤلم، فارتفاع أسعار الفائدة يعني أن يعطي البنك أرباحاً على ودائع عملائه التي كانت تقارب الصفر قبل ارتفاع أسعار الفائدة، كما أن كثيراً من هؤلاء العملاء بدؤوا بسحب ودائعهم كبديل للتمويل بسبب ارتفاع تكلفة القروض. هذا الوضع أحدث فجوة في الموازنة المالية لدى البنك، فاضطر لبيع السندات التي اشتراها بأسعار مرتفعة، ما تسبب في خسارته نحو 1,8 مليار دولار، وهو ما أعلنه منذ نحو أسبوع. كان هذا بداية السقوط الحر للبنك، فانخفضت قيمة البنك بأكثر من 60 في المئة في يوم واحد، وفقد نحو 10 مليارات دولار في أكبر خسارة للبنك في تاريخه، وسحب عملاء البنك 42 مليار دولار في يوم واحد، ليقفل البنك بعد ذلك أبوابه في اليوم التالي مباشرة.

هذا الوضع يوضح قسوة القطاع البنكي بكل وضوح، فهذا البنك لطالما ساند عملاءه، وجاء الوقت الذي يحتاج فيه إلى مساندة عملائه، لكن نحو 93 في المئة من هؤلاء العملاء لا يملكون تأميناً على ودائعهم، لذلك لا ملامة عليهم من الهرع إلى البنك لسحب أموالهم. وقد علق أحد كبار التنفيذيين في إحدى شركات الاستثمار الجريء بقوله إن أربعين عاماً من العلاقة بين البنك وعملائه انتهت في أقل من 14 ساعة!

وتبع انهيار البنك المذكور بنك آخر سيجنيتشر(حسب تأثير الدومينو) انهيار لعـدة بنوك – والحبل عـلى الجرار- ؛ وسيؤثر في الاقتصاد العـالمي «إذا عـطست أميركا فسيصاب العـالم بالزكام»!

من الطريف أن بنك (HSBC) – أعلن مباشرة أنه استحوذ على وحدة بنك وادي السيليكون (SVB) الأميركي في بريطانيا مقابل جنيه إسترليني واحد، في حين يراقب صندوق النقد الدولي التداعيات ومخاطر الاستقرار المالي المترتبة على انهيار البنك. وقال الرئيس التنفيذي في بيان حول الاستحواذ إنها خطوة من شأنها حماية الودائع من دون دعم من دافعي الضرائب. وتابع بالقول: «إتش إس بي سي هو أكبر بنك في أوروبا، ومن المفترض أن يشعر عملاء بنك وادي السيليكون في المملكة المتحدة بالاطمئنان إزاء القوة والأمان» التي يعنيها هذا الاستحواذ.

إن انهيار البنوك يحمل رسالة مهمة، هي أن القطاع البنكي على الرغم من كل التحوطات التي تتخذها الحكومات لا يزال بعيداً عن الكمال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن