قضايا وآراء

فتق جديد في نسيج القطبية الأحادية

| عبد المنعم علي عيسى

حمل البيان الصادر يوم الجمعة 10 آذار الجاري في بكين والذي احتوى الإعلان عن اتفاق سعودي إيراني برعاية صينية العديد من المؤشرات في شتى الاتجاهات سواء أكان لجهة توقيته أم لجهة المكان الذي صدر منه، لكن الأهم في تلك المؤشرات هو أنه كان يمثل «قفزة» سعودية هي الثالثة بعيداً عن «المركب» الأميركي، بعد أن فعلت الرياض ذلك الأمر مرتين في غضون الأشهر القليلة الماضية أولاهما مثلها التصويت في اجتماع «أوبك بلس» يوم 5 تشرين الأول 2022 الذي جاء خارج «الإملاء» الأميركي، وثانيتهما تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان من على منبر «مؤتمر ميونيخ للأمن» يوم 18 شباط المنصرم والتي يصح توصيفها على أنها تندرج في سياق رؤية سعودية جديدة للأزمة السورية، التي سيكون لمسارها وللحلول التي ستؤول إليها دور في تركيب الأحجار المبعثرة على امتداد المنطقة الممتدة ما بين الخليج العربي والمغرب الأقصى.

جاء في البيان الصادر من بكين أن الطرفين اتفقا على «استئناف العلاقة بينهما» وحددا موعدا «خلال شهرين لفتح السفارات»، ولربما كانت العبارات السابقة كافية للقول إن الاتفاق هو بحجم تحول نوعي سوف يرخي بظلاله على الكثير من الملفات الساخنة في سورية والعراق ولبنان واليمن، لكن التفاصيل التي أوردتها وكالة الأنباء السعودية «واس» من شأنها أن تضيف الكثير إلى معالم المشهد سابق الذكر، فقد جاء في التقرير الذي نشرته هذه الأخيرة أن الاتفاق جاء استجابة «لمبادرة الرئيس الصيني شي جين بينغ من أجل تطوير علاقات حسن الجوار بين المملكة السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية»، وأن «بكين تقدمت بطلب رعاية المحادثات بين الرياض وطهران»، ثم أضاف التقرير إن تلك المحادثات جرت «ما بين 6 و10 آذار»، وما تراكمه تلك المعطيات التي وردت في سياق تقرير «واس» كثير، لكن البارز منها هو سعي صيني لترتيب أوراق المنطقة التي شكلت الفوضى المنتشرة فيها منذ «دزينة» من السنين عامل استثمار للغرب، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، بشكل أتاح تعزيز قبضة هذه الأخيرة على العالم وصولا إلى إمكان التفكير برسم خرائط جديدة للمنطقة بطريقة تلائم مشروعها الذي كان من بين أهدافه رسوخ «مخفرها» المتقدم بعدما تكشفت في دواخل هذا الأخير ملامح قلق واضحة تجاه ذلك الفعل كان من بينها ثبوت قناعة أن عواصف «الربيع العربي» لم تجعل من الكيان أكثر أمنا واستقرارا بل على العكس من ذلك فإن المآلات التي قادت إليها تلك العواصف أظهرت، بما لا يدع مجالا للشك، أن الكيان بات اليوم في وضع هو الأصعب منذ قيامه، ولربما تمظهر ذلك، أكثر ما تمظهر، ببروز عقدة «العقد الثامن» التي راحت تتداولها مراكز دراسات، وساسة صهاينة، وهي تشير إلى «سقوط الهيكل» قبيل أن يتم عامه الثمانين في المرتين اللتين قام فيهما.

تشير فترة الأيام الأربعة التي خيضت على مداها المفاوضات ما بين الطرفين برعاية صينية إلى معطيين اثنين أولهما أن الظروف كانت ناضجة تماما للخروج بما خرجت به وهذا له علاقة بالقراءة السعودية للتوتر الغربي الإيراني الحاصل منذ أشهر، وثانيهما أن بكين ترقب بعدسة واسعة تطول كل البؤر التي يستثمر فيها نظام الهيمنة الأميركي على العالم، وفي سياق مراقبتها، تجهد محاولة الشد بتلك البؤر نحو سياقات من شأن النتائج التي تؤول إليها أن تشكل «فتقا» في نسيج ذلك النظام، والمؤكد هو أن بكين «10 آذار» نجحت بدرجة تامة في إغلاق بؤرة وازنة لطالما شكلت موطئا يعتاش عليه الأميركي جنبا إلى جنب العديد من البؤر التي تنتشر على امتداد هذا العالم، والفعل هنا قد يمهد الطريق إلى إغلاقات أخرى ربما تشهد سيناريوهات مشابهة كانعكاس مباشر، أو غير مباشر، لمحطة بكين، نحو ترسيخ الاستقرار على ضفتي الخليج العربي بكل تداعياتها المفترضة على العمقين العربي والإيراني.

كانت لبكين نظرتها «المتأنية» تجاه الصراع المندلع ما بين الغرب من جهة وبين روسيا من جهة أخرى، ولربما كانت «المبادرة» التي قدمتها لحل ذلك الصراع عشية ولوجه عامه الثاني تعبيراً عن السقف الذي يمكن لها الذهاب إليه في دعم موسكو، وذلك السقف يقع تحت خط اشتعال مناخات التوتر العالمية، وبمعنى آخر ترى بكين، بعكس واشنطن، أن إطفاء الحرائق هو السبيل لمد نفوذها وتنامي دورها الأمر الذي يعطي لـ«المشروع الصيني» دفعا وازنا ذا أبعاد حضارية وإنسانية وهي لازمة لتعويض الفوارق فيما بينه وبين نظيره الأميركي المتفوق من حيث القوة الاقتصادية والتكنولوجية مع لحظ أن تلك الفوارق تبدو متغيرة بشكل متسارع، والتغير إياه غالبا ما يصب في الكفة الصينية التي ما انفكت تراكم أسباب القوة في مسعاها لتقليص تلك الفوارق، والمؤكد الآن هو أن «محطة 10 آذار» لا تختلف في نهجها ولا في الأدوات المستخدمة فيها عن «المبادرة» التي أطلقها وزير الخارجية الصيني وانغ يي، لحل الصراع الروسي الغربي على الأرض الأوكرانية، وكلاهما ينهلان منهجيتهما من جعبة «الحزام والطريق» التي أطلقتها بكين العام 2012 وخيارها فيها كان هو «السلعة وتأمين مرورها» كبديل عن «الدبابة» التي قد تستطيع الوصول لكنها قد لا تستطيع البقاء.

عالم ما بعد 25 كانون الأول 1991، الذي شهد انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة العالمية، يتفكك، والجدارات التي ابتنتها واشنطن، وكذلك تل أبيب، في المنطقة تتهاوى، مع لحظ أن انهيار نظام قديم يحدث هكذا دفعة واحدة، لكن بناء آخر بديل على أنقاضه يكون بوضع حجرة فوق حجرة ثم معايرة التوازن الذي أحدثه ذلك الفعل الأمر الذي يبدو أن «المعمار» الصيني يتقنه بدرجة لا خوف فيها، على التوازن، من علو المداميك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن