على الرغم من أن التقارب الإيراني- السعودي لم يكن مفاجئاً في حصوله أو مساره البنيوي المتوقع له، إلا أن مكان وتوقيت الإعلان عن هذا التقارب هو الذي أحدث ما يمكن تسميته بالمفاجأة الجيوبولتيكية السياسية، إذ كان من المتوقع أن مثل هذا الاتفاق والتقارب قريب الحدوث ولاسيما في ظل نضوج الظروف والبيئات الداخلية والخارجية، حتى بات التقارب بالنسبة للجانبين ضرورة سياسية لتخفيف حجم الأعباء المتعددة على جميع المستويات، وكان الجميع في حالة ترقب وتوقع أن تكون بغداد عاصمة العراق المتضررة من تصاعد الصراع، أو مسقط عاصمة عمان المحايدة والساعية بجهودها الحميدة، الرقعة الجغرافية التي تحتوي هذا التقارب بين الدولتين، ولم تكن هناك أي مؤشرات أن تكون بكين الصينية هي الراعي والحاضن الدولي لمثل هذا الحدث غير الاعتيادي.
إذ إنه من المؤكد أن مسار عودة العلاقات السعودية الإيرانية لن تكون سريعة أو خالية من المصاعب والتحديات في ظل وجود العديد من الملفات الخلافية والمواقف المتناقضة والصراعات القائمة بين الجانبين ومواقف الفواعل الإقليمية والدولية منها، ولكن في ذات الوقت من الممكن أن تشكل عودة الدفء والتواصل بين العاصمتين الرياض وطهران عاملاً مؤثراً في تخفيض مؤشرات التصعيد بالمنطقة، وتشكل نواة لإيجاد الحلول السياسية للملفات الصراعية على قاعدة الخطوة خطوة لبناء الثقة والتعاون بين الدولتين.
لذلك عند تحليل أي ظاهرة سياسية تتعلق في تحول الصراع بين دولتين أو فإعلين سياسيين لحالة تعاون وتقارب، يجب النظر، إلى جانب الدوافع الذاتية والموضوعية لكل واحدة منهما، للتوقيت السياسي المتضمن حدوث هذا التحول، وكذلك للفواعل السياسية التي ترعى وتدعم مثل اتفاق كهذا، وبناء عليه يمكن أن نورد عدداً من الدلالات التي يتضمنها هذا الإعلان:
أولاً- على المستوى الصيني تمثلت أبرز الأهداف الصينية لإنجاح وساطة التقارب بين السعودية وإيران في مجموعة من الأبعاد: البعد الجيوإستراتيجي يتمثل في تقليل تأثير الولايات المتحدة الأميركية على منطقة الشرق الأوسط الذي هيمنت عليه بشكل متنامٍ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان لافتاً في هذا السياق أن رعاية الصين لهذا الاجتماع ومن ثم التوصل لاتفاق جاء بعد ساعات قليلة ومعدودة من فوز شي جين بينغ بولاية رئاسية ثالثة للصين رغم توافر معلومات عن التوصل لهذا الاتفاق قبل الإعلان عن فوزه بعد أربعة أيام من الاجتماعات المكوكية بين الجانبين في الصين، كما أن هذا الاتفاق في البعد الجيوإستراتيجي للصين يسهم بوضع مقومات نجاح لمشروع الحزم والطريق الذي يتطلب تكريس استقرار المنطقة وتعزيز العلاقة بين دولها، أما في البعد الاقتصادي فيبدو جلياً أن هناك مصلحة اقتصادية للصين في إنجاح هذا الحوار لكون السعودية وإيران هما أكثر دولتين تصدران النفط للصين التي تستهلك منه أكثر من 12 مليون برميل يومياً، كما تعد كل من السعودية وإيران من أكبر شركاء الصين تجارياً، إذ يسهم تحقيق الاستقرار في العلاقة بينهما بالحفاظ على سعر النفط الذي يتطلبه الاقتصاد الصيني ويرفد الاقتصاد الصيني بالمزيد من النمو والتوسع، على حين يتجلى البعد السياسي في إدراك الصين أن الحوار السعودي الإيراني وتخفيض مؤشرات الاستفزاز بينهما سينعكس إيجاباً على حل الأزمات والصراعات المختلفة في سورية والعراق ولبنان واليمن وغيرها، ومن النقاط البارزة التي قد تبحث عنها الصين في هذا الإطار هو إنجاح هذا الدور الوسائطي بين السعودية وإيران، ليكون لها دور بارز في حل الأزمة الأوكرانية وتقديم نفسها أكثر الدول القادرة على ذلك.
ثانياً- على المستويين الإيراني والسعودي فهناك حاجة لهذا الاتفاق والتقارب، يتمثل ذلك في تخفيف الضغوط الداخلية لكلتا الدولتين، إذ إنه من الجانب السعودي يسعى ولي العهد محمد بن سلمان لتقديم نفسه للرأي العام الداخلي والخارجي على أنه رجل سلام، ما يجعله الخيار الأفضل لتولي العرش من دون أي منغصات أو تحديات قد تواجهه ولاسيما بعد النقطة السوداء التي لاحقته في خصوص مقتل الصحفي جمال خاشقجي، كما أن السعودية قد تستفيد من هذا التقارب لوضع صيغة مشتركة مع إيران فيما يتعلق بالأمن الإقليمي وهو ما قد يخفف من عبء شراء الأسلحة الغربية ويسرع من مشاريع التنمية المستدامة التي طرحتها السعودية لتحويل الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد إنتاجي واستثماري من دون الاعتماد على النفط، فضلاً عن أن هذا التقارب يعيد ترتيب التوازن الإقليمي بين السعودية وإيران وتركيا، أما على الجانب الإيراني المرهق من العقوبات فإن هذا التوافق قد يخفف من حجم التدخلات الخارجية التي باءت بالفشل فيما يتعلق بتمويل الاحتجاجات الداخلية ويمهد لتسريع العودة للاتفاق النووي مع تزايد حجم الدول المؤيدة له وتراجع من يعارضونه، كما أن هذا الاتفاق في حال استكماله قد يساعد الدول الحليفة لإيران في حل أزماتها سياسياً.
ثالثاً- على المستوى المعارض والمؤيد لهذا التحول الإستراتيجي، فإن مثل هذا التقارب من شأنه أن يواجه بفواعل مؤيدة له وخاصة كل الدول والجغرافيات التي تواجه أزمات، إذ إنه من المؤكد في حال نجاح الحوار بين الدولتين أن ينعكس بشكل تدريجي على هذه القوى ويخفف من الضغوط التي تعاني منها دول النظام الإقليمي، غير أن المعارضين لهذا الاتفاق لن يكونوا في حالة ارتياح وخاصة الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، وهذا ما برز في ردة فعل وسائل الإعلام لكل منهما، إذ اعتبرت الصحافة الأميركية هذا الاتفاق وبرعاية صينية إخفاقاً عملاتياً للإستراتيجية الأميركية وتراجعاً لنفوذها ومغايراً لمصالحها، فبعد أن كانت واشنطن تخطط لتوسيع نفوذها في جنوب شرق آسيا منذ عام 2010 لاحتواء الصين فها هي تتراجع في نفوذها من أهم المناطق الحيوية لها مقابل توسع للدور الصيني، أما على الجانب الإسرائيلي فإن هذا الاتفاق يقطع الطريق أمام حكومة نتنياهو لدخول السعودية في دائرة التطبيع مع الكيان المحتل ولاسيما بعد حملات الإعلام الصهيونية عن اقتراب التطبيع بين تل أبيب والرياض، إن لم نقل إن هذا الاتفاق قد يدفع الدول المطبعة لإعادة النظر في تطبيعها مع الكيان، كما أن المخاطر الأمنية التي يتخوف منها الكيان آخذة بالتزايد في ظل تقلص عدد حلفائها في مواجهة إيران وتخفيض الضغط على إيران في دعم حركات المقاومة.
الصين من أكثر الفواعل السياسية التي تمتلك تأثيراً في تسهيل الوساطات وحل النزاعات وهو ما سيبرز خلال المرحلة القادمة، وقدرتها على أداء هذا الدور من شأنه أن يغير جيبولوتيك الجغرافية السياسية الدولية، فكما شهدت بغداد وعمان المحادثات الإيرانية السعودية وتمت هندسة معالمها في الصين، فإن الأزمة الأوكرانية التي أدت بها كل من تركيا وبعض الدول العربية والأوروبية دوراً في إدارة الوساطة بها، فإن إطفاء نارها لن يكون إلا بمبادرة ودور صيني.