تترك المصالحة الإيرانية السعودية أنموذجاً عالمياً يحتذى في العلاقات الدولية لإجراء التسويات للملفات الكبرى بأساليب دبلوماسية مرموقة تعيد الاستقرار لكثير من القضايا الخلافية والصراعات في العالم، وتبحث في الحلول العقلانية للكثير من النزاعات الدولية الكبرى، وهنا يبرز سؤال جوهري مفاده: ما الأمر المختلف الذي قاد إلى المصالحة بين الرياض وطهران؟
تبدو الإجابة عن السؤال السابق سهلة وبسيطة وجليّة، إذ إن الفارق الأساسي هو في الوسيط، عندما مثلت الصين دور الوسيط الدولي النزيه في تسوية الخلافات بين البلدين الآسيويين الجارين، كانت الوساطة ناجحة وأعطت ثماراً فورية، ببيان مشترك يشير إلى منهجية عقلانية لعودة العلاقات إلى شكلها الطبيعي بين البلدين وفق جدول مرحلي متسلسل ووفق جدول زمني محدد، ورغم أن السبب السابق أساسي وجوهري، إلا أنه لا بد أن هناك أسباباً أخرى، أهمها بدء المملكة العربية السعودية مرحلة جديدة في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، عنوانها الخروج من العباءة الأميركية في بعض الملفات الإقليمية.
إن خروج الرياض قليلاً من العباءة الأميركية، لا بد أنه لن يقف عند هذا الحد بل سيتسع ليشمل المنطقة بأكملها، وأول من سينعكس عليهم هذا التقارب، هم سورية واليمن ولبنان، إذ لا بد للمصالحة من أن تسهم في خفض حدة التنافس الإقليمي في المنطقة، والتي تمثل كل من سورية واليمن ولبنان ساحاته الأساسية، وهذا يشير إلى أن المنطقة مقبلة على حالة استقرار سياسي وأمني وعسكري، وهي شروط أساسية للتعافي الاقتصادي وبدء ارتفاع مؤشرات التنمية.
ما سبق يؤكد حقيقة أن النفوذ الأميركي يتآكل في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم عموماً، ومن ثم فإن الفراغ الذي يخلقه تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، يقتضي بحكم الطبيعة ملأه من قبل قوى دولية أخرى، تمثل روسيا، واليوم الصين، القوى الدولية الأساسية التي تملأ الفراغ الذي يحدثه تراجع نفوذ واشنطن في المنطقة، ومن ثم فإن أداء الصين دوراً جديداً في المنطقة يُظهر إلى أين تتغير القوة العالمية، وهو تغيير ذو مغزى في كيفية إدارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لسياسة الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أهمية هذه الدبلوماسية الصينية الجديدة في الشرق الأوسط والعالم، فإنها لا تعني أن بكين تحاول إزاحة الدور الأمني للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل هي تحاول خلق بيئة دولية سلمية في المنطقة، يمكن في ظلها القيام بأعمال تجارية، وهو ما ينسجم مع المشروع الصيني العظيم «الحزام والطريق»، وينسجم في الوقت ذاته مع التحليلات التي ترى بأن دول مجلس التعاون الخليجي بدأت تصوغ سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة، رداً على ما يمكن عدّه تنازلاً عن المسؤولية العسكرية والدبلوماسية الأميركية اتجاه الخليج العربي.
يمكن القول إن الإعلان عن اتفاق لإعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية بوساطة الصين، أعطى بكين المزيد من النفوذ في الشرق الأوسط، وبات الآن يمثل علامة فارقة لجهودها نحو ترسيخ نفسها كقوة دبلوماسية رائدة، وهو ما سيجعل دول المنطقة تنظر بشكل متزايد إلى الصين ليس فقط كشريك اقتصادي، ولكن كقوة دبلوماسية يمكنها أن تلعب دوراً نشطاً في الإقليم، وهذه النظرة ستنسحب على المستوى العالمي.
وبناءً على ما سبق، يبدو أن انخراط بكين في حل القضايا الدولية العالقة سيشكل عنواناً للمرحلة المقبلة على صعيد السياسة الخارجية للصين، إذ إن المبادرات التي تقودها الصين لحل القضية الفلسطينية، وإيجاد نهاية للحرب في اليمن، والعمل على إنهاء الاحتلال الأميركي في سورية، وإيجاد مخرج للحرب الأوكرانية، وسوى ذلك من الملفات، ستكون مفتاحاً وإعلاناً عن رغبة صينية في تحمُّل مسؤولياتها كدولة عظمى، وهذا يفترض ضمناً استعداد بكين لتحمّل نفقات قيادة العالم الاقتصادية.