قمة موسكو بين العمق العربي والعمق الإستراتيجي.. عندما تجتر السياسة التركية أخطاءها!
| فراس عزيز ديب
طغَت الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى روسيا ولقائهِ بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على كل مالهُ علاقة بالتحولاتِ الإقليمية والدولية، ربما أن ردَّات فعل الأعداء على الزيارة هي خيرُ توصيفٍ لنتائجها، قيادي في الحزب الحاكم الفرنسي رفضَ كلام المذيع في أحد البرامج السياسية عن قيام الرجلين (بوتين – الأسد) برسمِ ملامحِ الشرق الجديد بعدَ الترهل الذي أصابَ أوروبا، فبدأ يذكّرنا بما تمتلكهُ فرنسا من أوراق ونفوذ في دولٍ كلبنان مثلاً! متناسياً أنه إذا ما أطلَّ برأسهِ من نافذةِ مبنى القناة، سيعرف حجم ما تعانيهِ أوروبا من ترهل من أكوام القمامة المتكدسة في الشوارع نتيجة الإضرابات والاحتجاجات على تمريرِ قانون التقاعد وتردي الوضع الاقتصادي بعد الانغماس غير المباشر بالحربِ الأوكرانية، مع أن هذا البلد لا يعيش حرباً ولا اضطرابات ولا يخضع لعقوبات وحصار بل ويقدم نفسهُ كثاني قوة اقتصادية في القارة التي تحتضر!
لكن وبالجهةِ المقابلة بدا اللقاء وكأنهُ فعلياً جدَّدَ شكل العلاقة بين البلدين لعقودٍ قادمة بمسارٍ يستند إلى تعزيزها وصولاً إلى حد الشراكةِ المتكاملة عكس كل ما كان يشاع وما يسرب هنا وهناك، بمعنى آخر كان كل ما في الزيارة واضح ليسَ بحاجةٍ إلى تحليلٍ أو الاستناد إلى مصادرَ هنا أو تسريباتٍ هناك، فقط ما يمكن الحديث عنه هو علاقة هذه الزيارة بالتشابكاتِ الإقليمية والدولية التي نلخصها بنقطتين:
أولاً: العلاقة مع السعودية
إن التعاطي مع هذه الفكرة ليس انطلاقاً من أهمية العلاقة مع المملكة العربية السعودية فحسب، وما تمثله المملكة المتجددة من ثقلٍ سياسي واقتصادي قادر على المساعدة في حل الكثير من الأمور العالقة إقليمياً، لكنه ينطلق من باب الوفاء للرئيس بشار الأسد بالشكر حيث إن تصريحاته التي قال فيها لوكالة «سبوتنيك» بأن «السياسة السعودية اتخذت منحى مختلفاً تجاه دمشق منذ سنوات، ولم تتدخل في شؤون سورية الداخلية كما أنها لم تدعم أياً من الفصائل»، أنصفت كل من كتبَ يوماً دفاعاً عن أهمية العمق العربي لسورية، لأن هذا العمق لابديل لهُ مهما ساءت العلاقة والظروف، رغمَ ما كانت تلقاه هذه الأفكار من استهجان تصل لحد التخوين، علماً أن هكذا طروحات في غالبها ما كانت تنطلق من تمييز بين العمق الإستراتيجي والعمق الجغرافي لأن كلاهما يجب أن يتكاملا معاً، ولا وجود لأحدهما دون الآخر، بل تكون الكارثة فعلياً عندما يكون هناك من يقتنع بأن اختلال هذا التوازن هو أمر صحي، على هذا الأساس يبدو بأن مسار عودة العلاقات مع المملكة العربية السعودية يسير في الاتجاه الصحيح.
ثانياً: العلاقة مع تركيا
هنا تبدو الأمور أكثر تعقيداً، ليسَ بالنسبة للسياسة الخارجية السورية التي عبَّرَ عنها الرئيس الأسد بشكلٍ واضح ينطلق من مصلحة الشعب السوري ووحدة الأراضي السورية، لكننا نتحدث عن التعقيدات التي حاكها التركي لأنه ببساطة مازال يعتقد بأن سياسة اللعب على الحبال مجدية رغم إخفاق هذهِ السياسة عبر كل هذه السنوات لكنه لا يريد أن يتعظ.
هناكَ من حاول أن يضع هذه الزيارة فقط بإطار الوساطة التي تقودها روسيا للجمع بين الرئيسين الأسد ورجب طيب أردوغان، هناك من هم مصابون بـ«الزهايمر السياسي» ذهبوا حد الاعتقاد بأن بوتين قد يضع الرئيس الأسد أمام أمرٍ واقع عبر دعوة أردوغان بشكلٍ متزامن، مشكلة هؤلاء أنهم يجهلون أولاً وأخيراً ماذا تعني القيم الأخلاقية التي تتعاطى بها السياسة الروسية مع الأصدقاء فما بالك بالحلفاء؟!
قبلَ أسابيع من الآن، نقلت «الوطن» عن مصدرٍ سوري قوله: «سورية لا تريد أن تكون طرفاً في الانتخابات التركية، هذا شأن داخلي»، لم يفهم كثر يومها معنى هذا التصريح، وهناك من تعاطى معه بسخرية، هل فعلاً أن سورية قادرة على التدخل؟! ولو أن سورية كانت تريد التدخل لتدخلت على طريقةِ من فمك أدينك، ألم يقل النظام التركي عندما جرت الانتخابات الرئاسية في سورية: «كيف تتم هذه الانتخابات وهناك ملايين السوريين بينَ لاجئ ومبعد؟» حسناً كيف ستتم هذه الانتخابات التركية وهناك ملايين الأتراك خارج منازلهم وقراهم بعد كارثةِ الزلزال؟!
كان من الطبيعي أن تعلِّق سورية ولو بشكلٍ غير مباشر بأنها لا تريد أن تعطي لأحد أفضلية انتخابية احتراماً لخيارات الشعب التركي الذي نحترم، لكنها بالوقت ذاته لا ترى ما يراه الآخرون بما فيهم بعض الحلفاء بأن فوز المعارضة التركية سيعني وضع تركيا كاملةً بيد الغرب؟
اليوم بدا واضحاً بأن المشكلة في تركيا انتخابية قبل أن تكون مراجعة عامة لسياسات العدالة والتنمية، المشكلة أن الجانب التركي لا يزال يرى بأن بين تركيا وسورية مجرد خلافات ستزول بمجرد حدوث اللقاء، والحقيقة ليست كذلك لأن هناك تخبطاً تركياً لا يعرف ماذا يريد، حتى عندما قرر الأتراك الرد على الشروط السورية لم يخرجوا من عقدة الانتخابات، في البداية جاء الرد عبر قيادي في الحزب الحاكم اسمه أورهان ميري أوغلو، هذا يعني بأن الحزب يرى العلاقة مع سورية من منظوره كرابح وخاسر في السياسة الداخلية لا أكثر، بعدَ ذلك نرى بأن تعبير «الانتخابات» تكرر في كل الجمل التي قالها هذا القيادي تقريباً بما فيها توقعه حصول هذا اللقاء بعدَ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية! حسناً؛ إذا افترضنا أنه واثق من نجاحِ أردوغان فكيف يثق بأن الشروط السورية ستتبدل؟ إذا كان يعتقد بأن اللقاء أو الانسحاب سيؤثر على أردوغان انتخابياً فلماذا خرجوا إلى العلن متمنين حدوث اللقاء؟!
بسياقٍ متصل كان لافتاً ما يعانيهِ هذا القيادي من جهلٍ سياسي وتاريخي تحديداً عندما وازن بين التورط السوري في تركيا والتورط التركي في سورية، على هذا القيادي أن يسأل نفسه هل قامت سورية بتأسيس ميليشيا إرهابية بمسمى «الجيش التركي الحر» ودعمته بكل الوسائل لقلب نظام الحكم هناك؟ أم إنها كانت ولا تزال تردد عبارة «أمن المواطن التركي من أمن المواطن السوري»، هي لم تكتف بالأقوال بل كانت تنفذ هذه السياسات حرفياً، هل استضافت سورية مؤتمرات للمعارضة التركية المسلحة تحت عنوان «تركيا الديمقراطية»؟ هل دخل الجيش العربي السوري أراضٍي تركية وأسس فيها مقراتٍ للتعريب؟ أما فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني فنعيد ونكرر لهذا القيادي وغيره بأن هذه المشكلة هي مشكلة تركيِّة، هذا التنظيم لم يولد في سورية هو كان وليد لحظات التخلخل التركية، وسورية نفسها تعاني إرهابه، أما الحديث عن مقاربة التعاون السوري مع الأحزاب الكردية التي تسيطر على بعض المناطق في الشمال الشرقي لسورية فهو طريقة ساذجة للهروب إلى الأمام، إذا كان هناك من نتعامل معه فهو تعامل الضرورة كما هو الحال في الحسكة مثلاً، كيف ستسير شؤون المواطنين السوريين في المدينة إن لم يكن هناك تعاون؟! ألم تتعاون تركيا يوماً مع «داعش» للحصول على نفطنا المسروق، ألم تتعاون تركيا ولا تزال مع جبهة النصرة المصنفة إرهابية؟ ماذا عن قيادات الإخوان المسلمين المجرمة ألم تكن تركيا بعهد العدالة والتنمية أمهم الحنون؟ ثم إن أي حديث عن هذه الميليشيا ومستقبل التعاطي معها أوجزه الرئيس بشار الأسد بعبارةٍ واحدة: كل من يتعامل مع الأميركي على أرضنا خائن! نقطة على السطر، فماذا ينتظرنا؟
نجحت السياسة السورية حتى الآن بالاستثمار بالوقت حتى مرور العواصف، لكننا اليوم انتقلنا لمرحلةٍ جديدة بات هذا الوقت فيها ضاغطاً على كل من لايزال يحلم برؤية سورية كما يريدها حقده، معركة الوقت هذه ستعني حكماً ارتكابهم المزيد من الأخطاء، فيما تبدأ الدول العربية إعادة ترتيب الخلافات للانطلاق نحو المرحلة الجديدة التي يبدو أساسها تضامناً عربياً بالحد الأدنى وهو بشرى جيدة بعد كل ما تعرضت له المنطقة من دمارٍ وتحريض، بالسياق ذاته مع أو من دون رجب طيب أردوغان لن تتبدل الثوابت السياسية لسورية لأن المعتدي واضح، لكن لا يجب على الشعب التركي أن يدفع المزيد من الأثمان.
محكومون بالأمل، لأن ما وصلنا إليه اليوم من حراك سياسي كان مجرد التفكير بهِ قبل سنوات، مسّاً من الجنون! عودوا إلى كلام المذيع الفرنسي، وتذكروا بأن من كالوا له الاتهامات ورسموا له مصائرَ هوليودية، جلس وباعترافهم ليرسم ملامح الشرق الجديد.