مئوية الشاعر الكبير نزار قباني عاش عاشقاً ومناصراً للمرأة وللحب وخلّد علاقته الخاصة بدمشق
| وائل العدس
مرت أول من أمس الذكرى المئوية على ميلاد الشاعر السوري الكبير نزار قباني الذي نحتفل بميلاده دائماً بالتزامن مع الاحتفال بعيد الأم، وهى إحدى المصادفات الغريبة لأن نحتفل بميلاد شاعر المرأة في عيد كل امرأة وكل أم، لطالما اهتم قباني بمغازلة المرأة ووضعها في مكانة رفيعة وذكرها بأجمل الصفات وأعذب الأشعار.
واهتمت الصحف العربية ووسائل الإعلام بالاحتفال بذكراه لأنه لا يمثل حالة شعرية منفردة بل مثّل جيلاً بأكمله أثر فيه بأشعاره الرومانسية والسياسية وكانت لقصائده البليغة المنظومة باللغة العربية أهمية كبيرة في رقي الأغنية العربية والذوق العربي، فكان شاعراً لكل الأزمنة، ومازالت قصائده تغنى حتى الآن من ألمع نجوم الغناء.
ولد نزار في دمشق القديمة، وكان منزله يمتلئ بالزروع الشامية من زنبق وريحان وياسمين، وهو ما خلّف في نفسه حب الرسم وكذلك عشق الموسيقا، وخاصة العزف على العود، ثم وجد الشعر طريقه إلى روحه فبات يحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة وطرفة بن العبد وقيس بن الملوح، وتتلمذ على يد الشاعر خليل مردم بك.
حياته
ولد نزار في 21 آذار عام 1923 لأسرة تهتم بالعلم والثقافة، وتشتغل بالتجارة ومنها أبو خليل القباني رائد المسرح الغنائي في سورية ومصر.
كان نزار الولد الثاني بين أربعة ذكور وبنت وكان أبوه توفيق قباني رجلاً كادحاً كما وصفه شاعرنا يعمل في صناعة الحلويات ولكنه انخرط بقوة في النضال ضد الاحتلال الفرنسي محولاً بيته مكاناً لعقد الاجتماعات المطالبة بجلاء المستعمر فاعتقله أكثر من مرة ما جعل نزار يتعجب لازدواجية والده في صناعة الحلوى والثورة وجمعه الحلاوة والضراوة.
درس نزار في الكلية العلمية الوطنية حتى المرحلة الثانوية والتي لعبت دوراً رئيسياً في تشكيله الثقافي فقرأ الشعر العربي إلى جانب الفرنسي وتأثر بمعلمه الشاعر خليل مردم بك مؤلف النشيد العربي السوري والذي يدين له بهذا المخزون الشعري الراقي في عقله الباطن وزرع وردة الشعر تحت جلده.
وبعد أن نال شهادة البكالوريا الأولى القسم الأدبي من الكلية العلمية الوطنية انتقل إلى مدرسة التجهيز حيث حصل على شهادة البكالوريا الثانية قسم الفلسفة.
وفي جامعة دمشق أكمل دراسته الجامعية في كلية الحقوق وتخرج فيها سنة 1945 رغم زهده بدراسة القانون ولكنه سعى وراء هذا الخيار لأنه مفتاح عمله في المستقبل ولكن كتب الكلية كانت تجلس على صدره كجدران من الرصاص لذلك لم يمارس المحاماة ولم يترافع في قضية قانونية واحدة والقضية الوحيدة التي ترافع فيها هي قضية الجمال والبريء الوحيد الذي دافع عنه هو الشعر.
بعد تخرجه عمل بالسلك الدبلوماسي، التحق بسفارة سورية في القاهرة، ثم تنقل في هذه الوظيفة من بلد إلى آخر إلى أن استقال سنة 1966؛ ليؤسس داراً للنشر باسمه في بيروت.
أتقن إضافة إلى اللغة العربية، اللغة الفرنسية في سورية وأثناء عمله في باريس، كما أتقن اللغة الإنكليزية التي تعلمها في موطنها في أثناء عمله في السفارة السورية في لندن (1952-1955)، وتعلم اللغة الإسبانية في موطنها حين كان يعمل في السفارة السورية في مدريد (1962-1966)، كما عمل في السفارة السورية في بكين وطوكيو.
من أنا؟
كتب نزار قباني يتحدث عن نفسه وتجربته مع الشعر، فقال تحت عنوان «من أنا؟»: «سأوفر عليكم الوقت، وعذاب طرح الأسئلة، وأقول لكم إنني شاعر قرر بينه وبين نفسه في الأربعينيات أن يشعل اللغة من أول نقطة حبر حتى آخر نقطة حبر، ويشعل الوطن الممتد من البحر إلى البحر ومن القهر إلى القهر».
وأضاف: «خريطة الأشياء لم تكن تعجبني ولخبطتها، أردت أن أكتب شعراً يحمل توقيعي وحدي، وحلمت أن أكتب قصيدة لحسابي الخاص من دون أن أسحب أي قرش من ميراث العائلة».
وتابع: «من أنا؟ أنا شاعر لا يزال يفتش عن الحرف التاسع والعشرين في الأبجدية العربية، أحاول التنقيب عن الماء في النصوص التي جف فيها الماء من كثرة الشاربين».
وأردف: «كتبت بقصائدي تاريخ النساء، وقد أعطيت المرأة هذه المساحة الكبيرة من وقتي ومن عمري ومن دفاتري، لأن الكاتب يبقى وسيماً أنيقاً مادام موجوداً في كنف المرأة، وفي حمايتها، وحين ترفع يدها عنه يشيخ عشرة آلاف سنة في سنة واحدة، وينتحر كالفيل الإفريقي من شدة الضجر والترهل والغلاظة – إنني أعتبر نفسي مسؤولاً عن المرأة».
هكذا يقول الراحل نزار قباني أشهر الشعراء العرب في العصر الحديث، الذين ارتبط اسمهم بحواء، وارتبطت هي بهم، ولاسيما أنه عبّر بصدق شديد، وغير مسبوق عن إحساس المرأة، وبشكل يفوق قدرتها هي على التعبير عن مشاعرها التي حرصت على إخفائها حتى جاء هو لتبصر النور معه.
مع دمشق
يكاد شعر نزار قباني أن يكون كله عن دمشق، فالمدينة السورية المحملة بعبق التاريخ، والموسومة ببصمات حضارات عديدة تعاقبت عليها، هي دار نزار التي عبر عنها في مقال طويل مشهور بعنوان «دارنا الدمشقية».
تلك الجنة الدمشقية لم تقصر معه وبادلته حباً بحب، فسمي شارع في دمشق باسمه، ما جعله يعبّر بجذل وفرح ليكشف عمق علاقته بذلك المكان.
خلّد نزار تلك العلاقة الخاصة بمدينته دمشق، لكنه أفرد لها بعض القصائد من بينها قصيدته «ترصيع بالذهب على سيف دمشقي».
ويستمر نزار في الإفصاح عن غرامه بدمشق حين يجعلها قصيدة قائمة بذاتها في «القصيدة الدمشقية»، ويرسم فيها صورة للدمشقي المميز بعلاقته بالمكان، الذي تحتوي دقائق جسده على كل تفاصيل المكان وجمالياته من عناقيد العنب، وفاكهة التفاح، وتفاصيل الماضي الذي راح، لكنه ما زال يجري في الدم.
تتغلغل علاقة نزار بدمشق بعيداً حتى تصل إلى عمق اللغة الخاصة التي يكتب بها فهو يقول مفسراً ذلك التشابك بأن اللغة «الشامية» تداخلت في كلماته الشعرية، مجسدة عمق علاقته بالبيت الدمشقي الذي تربى فيه، وأنه برغم كل الأسفار التي بدأها كدبلوماسي لفترة امتدت عشرين عاماً، وتعلم فيها العديد من اللغات الأجنبية، إلا أنه بقي في لاوعيه محتفظاً بأبجدية دمشق في صوته وأصابعه وثيابه، وشعريته الطافحة التي نثرت ورداً دمشقياً على أديم العالم العربي لسنوات طويلة.
شاعر المرأة
وقد كانت المرأة لنزار قصيدة العمر، أنشودة الوجود، ورحيق الحياة، الذي كان يرتشفه لتأخذه نشوة ما بعدها نشوة سرعان ما ينتبه بعدها وفي فمه كلمات ساحرة ترقص لها المشاعر، وتطرب لها الأحاسيس، فحفظ الناس قصائده، وتغنوا بها، وأهدوها إلى محبيهم.
نزار المحب للمرأة أمّاً كانت أم محبوبة حاول رسم مدينة حب، باحثاً عن بلاد تسمح له بأن يمارس فعل الهوى، ككل العصافير فوق الشجر، طالباً من حبيبته أن تكون جريئة وتختار الموت فوق صدره أو فوق دفاتر أشعاره.
ووصف نفسه بأنه مفضوح بالشعر وأن عشيقته مفضوحة بكلماته، وأنه ما دام يمتلك حبيبته فهو القيصر، الذي ﻻ يتقن من مهن الدنيا سوى الحب، طالباً من المرأة الشرقية أن تثور على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ والتاريخ.
فعاش عاشقاً ومناصراً للمرأة والحب، غرست الأحداث التي عايشها في حياته الشعر والحب في نفسه، فخلال طفولته انتحرت شقيقته، بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تكن تحبه، ليصبح ذلك الحادث سلاحاً يقاوم به مع المرأة الشرقية كي تحقق ذاتها، قائلاً عن موت أخته: «صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي».
الشعر الغنائي
لن نضيف شيئاً إن وصفناه بالمدرسة الشعرية والظاهرة الثقافية إذ نجح بحفر اسمه في الذاكرة الشعبية، لكن ماذا لو انتقلنا إلى شعره الغنائي؟
لو نظرنا لشعره من هذه الناحية لوجدنا أنه الشاعر الأكثر حضوراً في تاريخ الغناء العربي المعاصر، علماً أنه ليس شاعراً غنائياً أصلاً، لكن على مدى أربعين عاماً كان أهم المطربين العرب يتسابقون للحصول على قصائده.
غنت القامات الفنية العربية الأهم لشاعر الحب أمثال أم كلثوم وفيروز وفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ وربى الجمال ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي وكاظم الساهر وغيرهم، كما تصدى لتلحين هذا الشعر كبار الملحنين العرب أمثال رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب والأخوين رحباني ونجيب السراج ومحمد الموجي وآخرين.
أوّل قصيدة تحولت إلى أغنية هي «كيف كان» التي لحّنها وغناها المصري أحمد عبد القادر خلال زيارة قام بها لدمشق عام 1953، ثم جاء دور قصيدة «بيت الحبيبة» التي لحّنها وغناها نجيب السراج عام 1958.
أما الموسيقار محمد عبد الوهاب، فقد لحّن قصائد عدة لنزار قباني منها «أيظن»، و«أسألك الرحيلا» و«ارجع إليّ» لنجاة الصغيرة والأغنية الوطنية «أصبح عندي بندقية» لأم كلثوم. كما غنت فيروز قصيدتيه «وشاية» و«لا تسألوني ما اسمه حبيبي».
فايزة أحمد غنت له من تلحين محمد سلطان أغنيتها الشهيرة «رسالة من سيدة حاقدة».
أما الراحل عبد الحليم حافظ، فقد غنّى قصيدتيه «رسالة من تحت الماء»، و«قارئة الفنجان» التي لحنها محمد الموجي، وكانت آخر ما غنى عبد الحليم عام 1976 قبل رحيله، وقد غيّر «العندليب الأسمر» بعض الأبيات والكلمات في القصيدة لأنه رأى أن بعض كلماتها تتضمن بعض الألفاظ التي لا تتناسب مع الذائقة الفنية لجمهوره في ذلك الوقت.
ولم يحاول أحد بعد عبد الحليم غناء شعر قباني باستثناء البحريني خالد الشيخ الذي لحن وغنى قصيدة «عيناك» في أواخر الثمانينيات.
في التسعينيات، قدمت ماجدة الرومي قصيدة «كلمات» التي أبدع إحسان المنذر في تلحينها، ولقيت نجاحاً كبيراً، وحقّقت شهرة واسعة.
بعدها، قدّمت أكثر من قصيدة لـ«شاعر المرأة» لكنّ هذا النوع من القصائد المغناة بقي محصوراً بفئة معينة من الجمهور الذي يقبل على الفن الراقي، ويبحث عن الكلمة الجيدة واللحن في وقت كانت فيه بداية التسعينيات تشهد انتشار ما أطلق عليه يومها بالأغنية الشبابية التي كانت تتعرّض لهجوم النقاد وتصنَّف ضمن الأغاني الهابطة. لكنّها كانت تتمتع بقاعدة جماهيرية أغلبها من الشباب والمراهقين الذين لم تكن القصائد المغناة باللغة الفصيحة تستهويهم إلى أن قام كاظم الساهر بغناء قصائد نزار قباني، وقدمها بطريقة عصرية جذبت الشباب والمراهقين. أقبل هؤلاء على هذا النوع من القصائد المغناة باللغة الفصيحة، وحقق «قيصر الغناء» نجاحاً كبيراً، فغنى له ثلاثين أغنية، من بينها «إني خيّرتك فاختاري»، و«زيديني عشقاً»، و«مدرسة الحب»، و«قولي أحبك»، و«أكرهها»، و«أشهد ألا امرأة إلا أنت»، و«حافية القدمين»، و«إني أحبك»، و«صباحك سكر»، و«أحبيني بلا عقد»، و«كل عام وأنت حبيبتي»، وجميعها من تلحين الفنان العراقي.
وكانت «مدرسة الحب» ولا تزال من أكثر الأغنيات العربية تداولاً.
نجاح الساهر بتأدية شعر شاعر دمشق الأول جعل عدداً كبيراً من الفنانين يغنون قصائد قباني كعاصي الحلاني الذي قدّم قصيدة «القرار» عام 2002 لكنه لم ينجح في هذا اللون، فأقفل الباب نهائياً على التجربة. أيضاً، استهوت قصائد نزار الفنان هاني شاكر الذي وقع خلاف بينه وبين كاظم على قصيدة «يوميات رجل مهزوم».
وغنت أم كلثوم قصيدة «رسالة إلى الزعيم» في رثاء الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970.
الفنانة التونسية لطيفة طرقت أيضاً باب نزار قباني، وقدمت ألبوماً كاملاً من كلماته وألحان كاظم الساهر، إضافة إلى غنائها قصيدة سميت بـ«دمشق».
أيضاً، غنّت المصرية غادة رجب قصيدة «لماذا» لنزار قباني وألحان كاظم الساهر التي تُعتبر من تجاربها الناجحة.
الدراما السورية
كان لروح الشاعر الدمشقية حضور في الدراما السورية أيضاً في سورية، فقدمت له مسلسلاً تناولت حياته الشخصية (تأليف قمر الدين علوش وإخراج باسل الخطيب).
من ناحية ثانية وعندما أنتج مسلسل عن فارس أموي شهير هو مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وهو عمل كتبه محمود عبد الكريم وأخرجه نجدة أنزور، كانت قصيدة القباني «ترصيع بالذهب على سيف دمشقي» تتجسد في شارة العمل، والتي لحنها الموسيقي اللبناني شربل روحانا.