قد تتعدى العلاقة التي ارتسمت ملامحها ما بين الرياض وواشنطن منذ شباط العام 1945، حدود التحالفات التي يمكن أن تقوم عادة ما بين الدول أو بين الشعوب التي تقارب ما بينها التجارب أو الأهداف خصوصاً منها تلك التي تنضوي تحت شعارات من نوع التحرر والاستقلال أو تلك التي لها علاقة بالإيديولوجيا أو نمط العيش والأفكار الناظمة له، حيث لفعل التعدي آنف الذكر أن يثير الكثير من التساؤلات تجاه ذلك التحالف الذي لا يتشارك فيه البلدان أياً من تلك العوامل مجتمعة أو منفردة.
صحيح أن ذلك التحالف، المستمر منذ نحو ثمانية عقود، مر بالعديد من المطبات التي كان من شأنها أن تثير بعضاً من الغبار أو الضباب في سموات البلدين، لكن الثابت هو أن هذا التحالف أبدى قدرة عجيبة في المحافظة على نقاوته وكأن هناك «ديسبراتورات» عملاقة حاضرة دائماً لتجعل من صفة «النقاوة» سابقة الذكر، هي القاعدة، فيما «الغبار» تفاصيل زائلة، والشاهد هو أن العديد من العلاقات، التي انتظمت في غضون مرحلة العقود الثمانية، كانت قد اهتزت على الرغم مما كان يجمع بين أطرافها من الروابط الكبرى مثل اهتزاز العلاقة الصينية- السوفيتية العام 1960 على وقع تفاصيل غائرة ما بين ثنايا الإيديولوجيا، وكذا العلاقة الأميركية- الفرنسية، زمن عهد الرئيس شارل ديغول ستينيات القرن الماضي، على وقع تفاصيل تتعلق بمفهوم الأمن واختلاف الرؤى حوله، لكن الشاهد أيضاً هو أن خيوط العلاقة الأميركية- السعودية قد احتفظت بمتانتها ولم تكن فترة الثمانين عاماً كافية لبروز ترهلها أو ظهور التمزقات فيها.
مثّل الانتقال من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد الذي يحدث للمرة الأولى في المملكة منذ قيامها بشكلها الحالي العام 1932، اختباراً حقيقياً لطبيعة التحالف الأهم القائم مع الولايات المتحدة، فعلى الرغم من أن ثوابت السياسة غالباً لا يكون فيها دور كبير للعامل «الشخصي – الذاتي»، لكن شيئاً من هذا بدا وكأنه يفرض ثقله في تلك الثوابت مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان إلى سدة السلطة في الرياض، فالرجل كانت له رؤاه وتطلعاته التي وإن شهدت عثرات وازنة في البداية، التي مثلها التدخل العسكري في اليمن وبدرجة أقل في الأزمة السورية، من دون أن يفضي الفعلان إلى أي شيء يذكر، لكنها أيضاً في صورتها العامة كانت تشير إلى أنه صاحب مشروع ورؤية تحاول قولبة الداخل مع متغيرات الخارج، وفي ضوء تلك العملية يجري رسم السياسات التي تهدف بالدرجة الأولى لتحقيق مصلحة البلاد العليا بعيداً عن المؤثرات الخارجية التي غالباً ما تكون متناقضة مع هذه الأخيرة، تبعا للتناقض ما بين المشروع الأميركي الرامي لسلب المنطقة مقومات النهوض، والمشروع العربي الذي يحاول القيام بذلك الفعل.
سجلت الفترة القريبة الماضية عدداً من المواقف السعودية التي جاءت في سياقات أقل ما يقال فيها إنها كانت بعيدة عن «الإملاء» الأميركي، من نوع تصويت «أوبك بلس» في 5 تشرين أول الماضي، ثم تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان من على منبر «مؤتمر ميونيخ للأمن» في 18 شباط الماضي، وأيضاً الاتفاق السعودي- الإيراني الذي أعلن من بكين يوم 10 آذار الجاري، حيث للمنبر هنا أهمية قد تعادل تماماً مخرجات ذلك الاتفاق، قبيل أن تضيف التصريحات التي أدلى بها وزير النفط السعودي عبد العزيز بن سلمان لموقع «إينيرجي انتلجينيس» قبل أيام، وفيها قال إن بلاده «لن تبيع النفط إلى أي دولة تفرض سقف أسعار على إمداداتها النفطية»، وهذا إذ يشير إلى تقارب كبير مع الموقف الروسي الذي سبق أن اتخذ الموقف نفسه، لكنه ينفي في الآن ذاته إمكان أن تكون المحطات الثلاث الأولى سابقة الذكر قد حدثت في ظل تنسيق سعودي- أميركي ولو بحدوده الدنيا، وكنتيجة يمكن الجزم بأن ثمة «تحول» سعودي يبدو وكأنه لا يضيع الوقت في رسم ملامحه الآخذة بالتبلور سريعاً.
يمكن القول: إن محركات الدوافع التي فرضت ذلك التحول متعددة بدءاً من الداخلي الذي يستمد زخمه من التغييرات الداخلية التي شهدتها المملكة في غضون السنوات القليلة الماضية، وهي في مجملها ذات طابع اجتماعي وثقافي تأخذ بعين الاعتبار رياح التحولات الجارية في المحيط ثم الأبعد منها، وهذه تتطلب أيضاً سياسة خارجية مختلفة تفرضها المعطيات التي ستنجم بالضرورة عن تلك التغييرات، ثم مروراً بالدولي الذي تشير ملامحه إلى صعود القوة الصينية الثابت بدرجة تهدد بتغير ميزان القوى الدولي والذي سيقود نحو نظام دولي جديد لم تتبلور ملامحه بعد، فالصين برزت في الآونة الأخيرة كقوة اقتصادية عملاقة، جنباً إلى جنب وزنها العسكري والتكنولوجي، لكن «أخطر» ما فيها هو قدرة الاقتصاد الصيني على المنافسة من حيث التكلفة وسرعة الإنجاز، ناهيك عن أن «نموذج» السياسة الصينية يبدو مريحاً لجهة نأيها بالنفس عن التدخل بالشؤون الداخلية للدول التي تسعى بكين لمد أذرعها الاقتصادية معها، والتي بات من المؤكد أن مروحتها تطول العالم بأسره، وهذا يأتي في مقابل «نموذج» أميركي، وغربي عموماً، هو على النقيض تماماً مع نظيره الصيني لجهة الحمولات التي يرخي بظلاله على دواخل الدول التي يمد بأذرعه نحوها، والراجح هو أن محطتي الاستثمار الغربي والأميركي في التناقض ما بين الرياض وطهران الذي لم ينجح في تحقيق النمو والاستقرار للداخل السعودي ومحطة استهداف «آرامكو» العام 2019 التي أثبتت «انكفاء» أميركياً لا لبس فيه حيال المصالح السعودية، كانتا بمنزلة دفعت نحو إعادة مراجعة الحسابات انطلاقاً من أن «البدائل» المتاحة قد تكون هي الأفضل.
في مطلق الأحوال يمكن القول: إن «التحول» الحاصل على السياسة السعودية لا يزال في بداياته، وهو لم يصل بعد إلى الدرجة التي يمكن وصفه فيها بـ«الخيار» النهائي، والثابت هو أن الفعل سيكون على «دريئة» الاستهداف المزدوج لكل من تل أبيب وواشنطن بغرض احتوائه، أو كسره، إذ لطالما كانت الاثنتان تريان فيه اختراقاً كبيراً في منطقة نفوذ أميركية من الصعب على واشنطن تجاهل ما يجري فيها.